الأحكام السلطانية للماوردي - (24) تقليد الوزارة 7
أولو الأمر هم أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في بحث الشئون وإدراك المصالح والغيرة عليها، وليس منْ شكٍّ في أن شئون الأمة متعددة، ففي الأمة جانب القوة، وفيها جانب القضاء، وفيها جانب المال، وفيها جانب السياسة الخارجية، وفيها غير ذلك من الجوانب.
الباب الثاني: في تقليد الوزارة
وَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَقِّ الْأَمِيرِ عَلَيْهِمْ فَأَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: الْتِزَامُ طَاعَتِهِ وَالدُّخُولُ فِي وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهِمْ انْعَقَدَتْ وَطَاعَتُهُ بِالْوِلَايَةِ وَجَبَتْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
وَفِي أُولِي الْأَمْرِ[1] تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ[2]، وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « »[3].
وَالثَّانِي: أَنْ يُفَوِّضُوا الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ، وَيَكِلُوهُ إلَى تَدْبِيرِهِ، حَتَّى لَا تَخْتَلِفَ آرَاؤُهُمْ، فَتَتْلَفَ كَلِمَتُهُمْ وَيَفْتَرِقَ جَمْعُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
فَجَعَلَ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إلَى وَلِيِّهِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ وَسَدَادِ الْأَمْرِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ صَوَابٌ خَفِيَ عَلَيْهِ بَيَّنُوهُ لَهُ وَأَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ نُدِبَ إلَى الْمُشَاوَرَةِ لِيَرْجِعَ بِهَا إلَى الصَّوَابِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسَارِعُوا إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالْوُقُوفِ عَنْهُ نَهْيِهِ وَزَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ لَوَازِمِ طَاعَتِهِ.
فَإِنْ تَوَقَّفُوا عَمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ وَأَقْدَمُوا عَلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ فَلَهُ تَأْدِيبُهُمْ عَلَى الْمُخَالَفَةِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ وَلَا يُغْلِظُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « »[4].
وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُنَازِعُوهُ فِي الْغَنَائِمِ إذَا قَسَّمَهَا، وَيَرْضَوْا مِنْهُ بِتَعْدِيلِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ، وَمَاثَلَ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ.
وَرَوَى عَمْرو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: إنَّ النَّاسَ اتَّبَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ يَقُولُونَ: اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا، حَتَّى أَلْجَأَهُ إلَى شَجَرَةٍ فَاخْتُطِفَ عَنْهُ رِدَاؤُهُ، فَقَالَ: « »، ثُمَّ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَغَامِ بَعِيرِهِ فَرَفَعَهَا وَقَالَ: « »، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعْرٍ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذْتُ هَذِهِ الْكُبَّةَ أَعْمَلُ بِهَا بَرْذعَةَ بَعِيرٍ لِي قَدْ بَرَدَ. فَقَالَ: « » ، فَقَالَ: « » ثُمَّ طَرَحَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ[5].
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قلت: اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في تعريف أولي الأمر، فنجد الإمام النووي يعرفهم: "بأنَّهم العلماء والرؤساء".
بينما يرى الإمام البغدادي أنَّهم "أهل الاجتهاد".
ثم نجد من يقول: "إنهم الأشراف والأعيان"، ثم نجد الإمام محمد عبده يقول: "إنهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجِعُ إليهم الناس في الحاجات والمصالح".
ثم يقول الإمام أيضًا: "إن أولي الأمر في زماننا هم كبار العلماء ورؤساء الجند، والقضاة، وكبار التجار والزراع، وأصحاب المصالح العامَّة، ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب، ونابغو الكُتَّاب والأطبَّاء والمحامين الذين تثق بهم الأمة في مصالحها، وترجع إليهم في مشكلاتها".
ثم يقول الشيخ محمود شلتوت رحمه الله: "أولو الأمر هم أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في بحث الشئون وإدراك المصالح والغيرة عليها، وليس منْ شكٍّ في أن شئون الأمة متعددة، ففي الأمة جانب القوة، وفيها جانب القضاء، وفيها جانب المال، وفيها جانب السياسة الخارجية، وفيها غير ذلك من الجوانب، ولكل جانب رجال عرفوا فيه بنضج الآراء وعظم الآثار، وهؤلاء الرجال هم أولو الأمر من الأمة، وهم أهل الإجماع الذين يكون اتفاقهم حجة يجب النزول عليها".
ويقول السيد رشيد رضا: "والمراد بأولي الأمر: أهل الرأي والمكانة في الأمة، وهم العلماء بمصالحها وطرق حفظها، والمقبولة آراؤهم عند عامتها".
[2] فائدة: يقول الدكتور عبد الكريم الحمداوي: كان الاجتهاد شديد الاضطراب عند محاولته تحديد هوية أولي الأمر الذين أشارت إليهم الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، مما ترك ثغرة للحكام وظَّفُوها للاستئثار بأمر الأمة كله، إلَّا أنَّ إعادة النظر في النصوص المتعلقة بالتدبير السياسي دلَّت بما لا يدع مجالًا للريب أنَّ أولي الأمر الدنيوي العام هم المسلمون جميعًا، وهم الأداة البشرية الموكلة بصياغة القوانين والقواعد، واتخاذ القرارات وتنفيذها والمحاسبة عليها.
ولئن اعترض معترض بأنَّ قضايا الدنيا متنوعة ومعقدة لا يفهمها إلّا أولو الاختصاص والخبرة من العلماء والفقهاء والأطباء والمهندسين، فإنَّ هذا الإشكال يزول إذا علمنا أنَّ هؤلاء يشاركون في الشورى، ويقومون أثناءها بمهمة الشرح والتوعية وتوضيح الأحكام الدينية والحقائق العلمية، على أن لا يحرم أحد من حقه إبداء الرأي أو الاعتراض أو المساهمة في اتخاذ القرار، أو يوظّف اختلاف المستوى العلمي مبررًا لاحتكار الشورى، والاستئثار بها؛ إذ الجميع في سفينة واحدة يهلكون مهلكًا واحدًا بغرقها. [فقه الأحكام السلطانية] .
[3] صحيح: (رواه البخاري في كتاب الأحكام [7137]، ومسلم في كتاب الإمارة [1835]).
[4] صحيح: (رواه أحمد [15506]، وصحَّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع [3309]).
[5] حسن: (رواه أبو داود في كتاب الجهاد [2694]، والنسائي في كتاب قسم الفيء [4139]، ومالك في كتاب الجهاد [994]، وحسنه الشيخ الألباني).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: