أولادنا وأخطاؤنا التربوية (3)
التربية في الأصل تهدف إلى رفعة الإنسان، وتنشئته وتنميته تنمية سامية، بحيث ينشا نشأة صالحة يرتقي فيها؛ فلا يهبط إلى مستوى الحيوانية البهيمية؛ وفي هذا تختلف الثقافات في تحقيق هذا الهدف السامي.
- التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام -
كتبت في المقال السابق عن بعض الممارسات الخاطئة في أسلوب التربية الذي يستخدمه بعض المربين في أثناء توليهم أمر التربية، سواء كانوا معلمين أم آباء أم مربين بمختلف فئاتهم وكنت أتبع هذه الممارسات الخاطئة معالجات لها أولادنا وأخطاؤنا التربوية (2).
وتحدثت في المقال الأول (أولادنا وأخطاؤنا التربوية (1)) عن التربية -ثمرة من ثمرات الثقافة- بأنها مهنة شاقة، وذكرت بعض الصفات التي ينبغي على المربين أن يتحلوا بها. ثم نوهت على بعض المعارف التي يجب أن يراعيها المربون في أثناء أدائهم لهذه المهنة الشريفة الصعبة.
وهنا أقرر حقيقة هامة وهي أن ميدان التربية (وهو ثمرة من ثمرات الثقافة كما أسلفنا) متسع متشعب متنوع متمدد ليس له صور محصاة بشقيه: السليم أو السقيم -من وجهة نظرنا- ومن هنا يكمن الخطر في البحث في هذا المجال، حيث إن مفهوم الثقافة غير متفق عليه عند كل الشعوب والأمم؛ ولذا يعتبر هذا الميدان من خصوصية كل أمة.
والتربية ليست -في العربية- من الفعل ربا يربو: زاد يزيد، وإنما من رَبِيَ يرْبَى ربْوا ورُبُوًّا من فَعِلَ يفعَل ثم ربى -بتشديد الباء المفتوحة- وتعني النماء: والارتفاع والزيادة والتثقيف والتغذية.
وهكذا فالتربية في الأصل تهدف إلى رفعة الإنسان، وتنشئته وتنميته تنمية سامية، بحيث ينشا نشأة صالحة يرتقي فيها؛ فلا يهبط إلى مستوى الحيوانية البهيمية؛ وفي هذا تختلف الثقافات في تحقيق هذا الهدف السامي.
ومن هذا المنطلق أقول: إن بعض المربين يهتم في أثناء التربية بتسمين الولد جسديًا، ولا يهتم بالجانب العقلي والروحي والعاطفي، فهو يؤمِّنُ لولده كل شيء يضخم جسده حتى يصبح كالفيل أو دونه، فإذا مرض يسارع إلى علاجه، فلا يترك وسيلة إلا ويبحث عنها عند من يمتلكها كي يبرأ ولده منها، وأما العيوب الخُلُقِيِّة، فلا تهمه إلا قليلًا.
فالكذب والمكر والخيانة، وأكل الحرام، وظلم العباد، وهضم الحقوق وووو لا تعني المربي شيئًا؛ فالمهم أن ينشأ مفتول العضلات مكتظ اللحم أحمر الوجنتين، ولا شيء سوى هذا. ولا يهتم بتثقيف العقل، وتهذيب الروحي، ومرد هذا الخطأ إلى الجهل في فهم الكينونة البشرية التي هي مزيج من الروح والجسد، وأنت بالروح لا بالجسم إنسان، وعلى هذا فتجد البيت مليئًا بمختلف أنواع الألعاب الالكترونية، ولعب الأطفال والناشئة، ولكنك لن تجد في المنزل مكتبة صوتية ولا ورقية ولا مرئية، ولا يهتم رب المنزل بالكتب التي تغذي كينونته المركبة من الأصلين: الجسد والروح وما يتفرع عنهما من قوى عقلية ونفسية وعاطفية، وبناء على هذا الخلل فإن صورة المُرَبَّى مشوهة يتضخم فيها جانب على حساب آخر.
ومن الأخطاء التربوية التي هي انعكاس للتصور العقدي لدى المُرَبِّي، هي تربية الولد على وجه يظن فيه الناشئ أنه مخلد في الدنيا، فكل ما يحقق له سعادته في دنياه يحقق له، وأما شأن الآخرة ـوهي الحياة الباقيةـ فلا وجود لها في حس الأبوين أو المربين؛ لذلك فالناشئ لا هم له سوى بطنه وغرائزه يرغب في أن تتحقق له سواء من حِلٍّ أو حرام، فهو كالحيوان يبحث عن المتعة واللذة في الدنيا، وأما الآخرة، فلا رصيد لها عنده فيا حسرة على العباد!!!
ومن الأخطاء التي يمارسها المربون أو القائمون على التربية والتعليم في العصر الحالي عصر ثورة المعلومات أو الانفجار المعرفي! مصطلحات لم تعرفها ثقافتنا، وإنما هي وليدة احتكاكنا بالآخرين الذين نحس أنهم أرفع منا، فنصبح مقلدين في كل شيء هو تكليف الصغار بعلوم وتقنيات ومعارف ولغات لا يحتاجون إليها إلا بعد الصف الخامس أو بعده من وجهة نظري، فيصاب الأبناء بالإرهاق والتعب؛ ثم كراهية التعلم، أو يضعف عنده جانب على حساب آخر، وغالبًا ما يكون لصالح العلوم بينما هو بحاجة في هذه السن إلى تأسيسه: بالقراءة والكتابة والمحادثة أو التعبير، وحب المطالعة ثم مبادئ الحساب، والتحلي ببعض الصفات الحميدة، ولا بأس ببعض الأناشيد الهادفة، ولا يعني هذا ألا يزود الطالب ببعض المعلومات التي تفيده في حياته الطفولية (مثل: معرفة آداب المرور والطعام والشراب والسلام والملاقاة وحفظ سور من القرآن الكريم، وبعض أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واحترام الكبير... إلخ و..و..و).
أما أن تصبح محفظة الطالب الصغير(الشنطة أو الحقيبة) أطول منه! وأثقل، فلا يقدر على حملها وفيها ما فيها من ألوان الكتب ما الله بها عليم. فهذا مشهد مرفوض ضرره أكثر من نفعه والواقع يشهد بهذا؛ ولذلك تحولت البيوت إلى مدارس ثانية بدلًا من أن يأتي التلميذ إلى بيته ليرتاح وليمارس بعض المناشط المفيدة، وقد كتب أحدهم أن السويد -بلد أوروبي متقدم علميًا- لا يعطى الطالب فيه واجبًا وأنا في رأيي: إن أعطي، فلا يرهق به، وإنما يجد الطالب فيه متعة للتعلم.
تلك بعض الآراء التي عرضتها في حقل التربية والتعليم قد يختلف معي من يختلف، وقد يتفق من يتفق، ولكني أعرضها، والحوار مفتوح حولها، وإلى الموضوع الرابع إن شاء الله تعالى.
مالك فيصل الدندشي
09 رجب 1435 هـ