آداب المُحدِّث والطالب

منذ 2014-09-07

يحسن بالمحدث الثناء على شيخه في حالة الرواية عنه بما هو أهل له، فقد فعل ذلك غير واحد من السلف والعلماء كما روى عن عطاء بن أبي رباح أنه كان إذا حدث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: حدثني البحر.

أولاً: آداب المحدث:

? الإخلاص وتصحيح النية:

قال ابن الصلاح: "علم الحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وينافر سيء الأخلاق ومشاين الشيم وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا، فمن أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه فليقدم تصحيح النية وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها وليحذر بلية حب الرئاسة ورعوناتها" [علوم الحديث ص (213)]، فقد أخرج أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة» [أخرجه أبو داود برقم (3664)، وابن ماجه (1/92)، وأحمد في مسنده (2/338)، وصححه ابن حبان (1/279)].

? أن يجلس للتحديث عند التأهيل الاحتياج إليه:

قال ابن الصلاح: "وقد اختلف في السن الذي إذا بلغ استحب له التصدي لإسماع الحديث والانتصاب لروايته والذي نقوله: إنه متى احتيج إلى ما عنده استحب له التصدي لروايته ونشره في أي سِنّ كان".

واختار الرامهرمزي في الحدّ الذي إذا بلغه الناقل حسن به أن يحدث هو أن يستوفي الخمسين لأنها انتهاء الكهولة وفيها مجتمع الأشد.

قال: وليس بمستنكر أن يحدث عند استيفاء الأربعين لأنها حدّ الاستواء ومنتهى الكمال، نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين وفي الأربعين تتناهى عزيمة الإنسان وقوّته ويتوفر عقله ويجود رأيه [علوم الحديث ص (213- 214)، وانظر: المحدث الفاضل ص (352)، والإلماع ص (200)].

وأنكر القاضي عياض ذلك على ابن خلاد الرامهرمزي وقال: "كم من السلف المتقدمين ومن بعدهم من المحدثين من لم ينته إلى هذا السن ومات قبله، وقد نشر من الحديث والعلم ما لا يحصى، هذا عمر بن عبد العزيز توفي ولم يكمل الأربعين، وسعيد بن جبير لم يبلغ الخمسين، وكذلك إبراهيم النخعي". وهذا مالك بن أنس جلس للناس ابن نيف وعشرين، وقيل: ابن سبع عشرة والناس متوافرون وشيوخه أحياء، وكذلك محمد بن إدريس الشافعي قد أخذ عنه العلم في سنّ الحداثة وانتصب لذلك، والله أعلم [علوم الحديث ص (213- 214)، وانظر: المحدث الفاضل ص (352)، والإلماع ص (200)].

وحمل ابن الصلاح ما ذكره الرامهرمزي على من يتصدى للتحديث ابتداءً من نفسه من غير براعة في العلم، وأما الذين ذكرهم عياض من حدث قبل ذلك، فالظاهر أن ذلك لبراعة منهم في العلم تقدمت، ظهر لهم معها الاحتياج إليهم فحدثوا قبل ذلك، أو لأنهم سُئلوا ذلك إما بصريح السؤال وإما لقرينة الحال [المصدر السابق ص (214- 215)].

وأما السنّ الذي بلغه المحدث أمسك عن التحديث فهو السن الذي يخشى عليه فيه من الهرم والخرف ويخاف عليه فيه أن يخلّط ما ليس من حديثه، والناس في بلوغ هذه السن يتفاوتون بحسب اختلاف أحوالهم، وهكذا إذا عمى وخاف أن يدخل عليه ما ليس من حديثه فليمسك عن الرواية.

وقال الرامهرمزي: "أعجب إليَّ أن يمسك في الثمانين لأنه حد الهرم، فإن كان عقله ثابتاً ورأيه مجتمعاً يعرف حديثه ويقول به وتحري أن يحدث احتساباً رجوت له خيراً" [ابن الصلاح ص (215)، وانظر: المحدث الفاضل ص 354].

ووجه ابن الصلاح ما قاله الرامهرمزي أن من بلغ الثمانين ضعف حاله في الغالب كما اتفق لغير واحد من الثقات كعبد الرزاق وسعيد بن أبي عروبة.

وقال ابن الصلاح: وقد حدث خلق بعد مجاوزة هذا السن فساعدهم التوفيق وصحبتهم السلامة، منهم: أنس بن مالك وسهل بن سعد وعبد الله بن أبي أوفى من الصحابة، ومالك والليث وابن عيينة وعلي بن الجعد في عدد جمّ من المتقدمين والمتأخرين.

وفيهم غير واحد حدثوا بعد استيفاء مئة سنة، منهم: الحسن بن عرفة وأبو القاسم البغوي وأبو إسحاق الهجيمي والقاضي أبو الطيب الطبري وغيرهم [علوم الحديث ص (215- 216)].

? أن لا يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك:

وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء. وزاد بعضهم فكره الرواية ببلد فيه من المحدثين من هو أولى منه لسنه أو لغيره ذلك.

قال ابن معين: "إن الذي يحدث بالبلدة وفيها من هو أولى منه بالتحديث فهو أحمق" [المصدر السابق ص (216)].

? ينبغي للمحدث إذا التمس منه ما يعلمه عند غيره في بلده أو غيره بإسناد أعلى من إسناده أو أرجح من وجه آخر أن يعلم الطالب ويرشده إليه فإن الدين النصيحة.

? أن لا يمتنع من تحديث أحد لكونه غير صحيح النية فيه، فإنه يرجي له حصول النية من بعد. قال معمر: كان يُقال إن الرجل ليطلب العلم لغير الله فيأبي عليه العلم حتى يكون لله عز وجل.

? أن يكون حريصاً على نشره العلم مبتغياً جزيل أجره، وقد كان في السلف رضوان الله عليهم من يتألف الناس على حديثه، منهم عروة بن الزبير رضي الله عنهما.

? قال ابن الصلاح: وليقتدِ بمالك رضي الله عنه فقد كان إذا أراد أن يحدث توضأ، وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته وتمكّن في جلوسه بوقار وهيبة وحدث، فقيل له في ذلك؟ فقال: "أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث إلى على طهارة متمكناً"، وكان يكره أن يحدث في الطريق أو هو قائم أو يستعجل وقال: "أحب أن أتفهّم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وروي عنه أن كان يغتسل لذلك ويتبخّر ويتطيّب فإن رفع أحد صوته في مجلس زجره، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}[الحجر: 2].

فمن رفع صوته عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم.

? أن يُقبل على طلابه جميعاً، ولا يخص بعضهم بمزيد عناية دون بعض، روي عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: إن من السنة إذا حدث الرجل القوم أن يُقبل عليهم جميعاً [علوم الحديث ص (217)].

? أن لا يسرد الحديث سرداً يمنع السامع من إدراك بعضه، وليفتتح مجلسه وليختمه بذكر ودعاء يليق بالحال.

? أن يقعد مجلساً للإملاء، فإنه من أعلى مراتب الرواية والسماع فيه من أحسن وجوه التحمُّل وأقواه.

? أن يتخذ مستملياً يبلغ عنه إذا كَثُر الجمع فذلك دأب أكابر المحدثين المتصدّين لمثل ذلك، وممن روى عنه ذلك: مالك وشعبة ووكيع وأبو عاصم ويزيد بن هارون في عدد كثير من الأعلام السالفين.

وليكن المستملي محصلاً متيقّظاً كيلا يقع في مثل ما روينا أن يزيد بن هارون سئل عن حديث فقال: حدثنا به عدة فصاح به المستملي: يا أبا خالد عدة بن من؟ فقال له:عدة ابن فقدتك. وعليه أن يتّبع لفظ المحدث فيؤديه على وجهه من غير خلاف [في عصرنا استغني عن المستملي بمكبرات الصوت].

ويحسن بالمحدث الثناء على شيخه في حالة الرواية عنه بما هو أهل له، فقد فعل ذلك غير واحد من السلف والعلماء كما روى عن عطاء بن أبي رباح أنه كان إذا حدث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: حدثني البحر.

وعن وكيع أنه قال: "حدثنا سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وأهم من ذلك الدعاء له عند ذكره فلا يغفلن عنه" [علوم الحديث ص (219- 220)].

ثانياً: آداب طالب العلم:

? أن يخلص النية لله سبحانه وتعالى: وأن يحذر من أن يتخذه وصلة إلى شيء من الأغراض الدنيوية، قال حماد بن سلمة: "من طلب الحديث لغير الله مُكِرَ به" [ابن الصلاح ص (222)].

? أن يوقر شيخه وأن يتحرى رضاه، وأن لا يضجره بكثرة الأسئلة لاسيما إذا رأى عدم رغبته في ذلك.

? أن يستشير الشيخ فيما يشتغل به، وفي كيفية اشتغاله، وفي سائر أموره.

? أن يرشد غيره لما سمعه وأن لا يدع الاستفادة لحياء أو كبر، بل يأخذ الحديث عمن هو فوقه أو مثله أو دونه.

? أن يعتني بتقييد ما سمعه ويضبطه وأن يذاكر بمحفوظه ليرسخ في ذهنه، وأن يكتب الأحاديث المشهورة، وأن يدع الغرائب والأحاديث المنكرة.

? أن يبدأ بالأهم من كتب الحديث رواية ودراية:

أ - فيبدأ بالأربعين النووية، ثم عمدة الأحكام، ثم بلوغ المراد، والمحرر لابن عبد الهادي, والمنتقى للمجد بن تيمية.

ب - ثم الصحيحين، ثم كتب السنن، ثم صحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، ثم السنن الكبرى للبيهقي، ثم مسند الإمام أحمد، وسائر المسانيد.

ج - ثم الموطأ، وسائر الكتب الجوامع.

د - كتب العلل، مثل: العلل للإمام أحمد والدارقطني وابن أبي حاتم.

هـ - ثم كتب الأسماء مثل: التاريخ الكبير للبخاري، والجرح والتعديل، وتاريخ ابن أبي خيثمة، والثقات لابن حبان والمجروحين له، والكامل لابن عدي، وتهذيب الكمال وتهذيبه وتقريبه، والكاشف والميزان ولسانه.

و - ثم كتب ضبط الأسماء مثل: الإكمال لابن ماكولا، وغيره مما مرّ ذكره.

? أن يتعرّف درجة الحديث وفقهه ومعانيه ولغته وإعرابه وأسماء رجاله محققاً، كل ذلك معتنياً بإتقان المشكل حفظاً وكتابةً فلا يقتصر على مجرد كتابة الحديث دون معرفته وفهمه.

? أن يعتني بكتب غريب الحديث وكتب شروح الحديث مثل: فتح الباري، إرشاد الساري، عمدة القاري، شرح النووي على مسلم، عون الحديث لأبي عبيد، وللحربي، وأبي عبيدة، الهروي، والخطابي، وابن الجوزي، والزمخشري، وابن الأثير، وغيرهم كما تقدم.

? أن يعمل بما سمع من أحاديث العبادات وفضائل الأعمال، فإن ذلك زكاة الحديث وسبب حفظه.

? ثم بعد ذلك مما ينبغي لطالب الحديث معرفة سنّ التحمل والأداء، والأصح اعتبار سن التحمل والتمييز هذا في السماع.

وقد جرت عادة المحدثين بإحضار الأطفال مجالس الحديث ويكتبون لهم أنه? حضروا، ولا بدّ في ذلك من إجازة المسمع، والأصح في سن الطالب بنفسه أن يتأهل لذلك. ويصح تحمُّل الكافر أيضاً إذا أدّاه بعد إسلامه، وكذا الفاسق من باب أولى إذا أدّاه بعد توبته وثبوت عدالته. وأما الأداء فلا بدّ من أن يتأهل لذلك، وتتوافر فيه شروط القبول بكونه عدلاً ضابطاً أي مسلماً مكلفاً سالماً من خوارم المروءة وأسباب الفسق، وأن يكون ضابطاً لمرويه بحيث يؤديه متى شاء إذا حدث من حفظه حاوياً لكتابه حافظاً له إن أدّى منه بحيث لا يخرجه من يده إلا إلى ثقة.

ومن المهم أيضاً: معرفة صفة كتابة الحديث وهو أن يكتبه مفسراً مبيّناً ويَشْكُل المشكِل منه وينقطه ويكتب الساقط في الحاشية اليمنى ما دام في السطر بقية وإلا ففي اليسرى.

ومن المهم أيضاً: معرفة صفة عرضه وهو مقابلته مع الشيخ المسمع، أو مع ثقة غيره، أو مع نفسه شيئاً فشيئاً.

وصفة سماعه بأن لا يتشاغل بما يخلّ به من نسخ أو حديث أو نعاس وصفة إسماعه كذلك، وأن يكون ذلك من أصله الذي سمع منه أو من فرع قوبل على أصله، فإن تعذر فليجبره بالإجازة لما خالف إن خالف. ومن المهم أيضاً: الرحلة في طلب الحديث بعد أن يبدأ بحديث أهل بلده فيستوعبه ثم يرحل فيحصل في الرحلة ما ليس عنده ويكون اعتناؤه في أسفاره بتكثير المسموع أولى من اعتنائه بتكثير الشيوخ.

ومن ذلك: معرفة صفة تصنيف الحديث وذلك إما:

? على المسانيد بأن يجمع مسند كل صحابي على حِدَة, فإن شاء رتّبه على سوابقهم، وإن شاء رتّبه على حروف المعجم وهو أسهل تناولاً.

? تصنيفه على الأبواب الفقهية أو غيرها، بأن يجمع في كل باب ما ورد مما يدل على حكمه إثباتاً أو نفياً، والأولى أن يقتصر على ما صح أو حسن فإن جمع الجميع فليبين علة الضعيف.

? تصنيفه على العلل، فيذكر المتن وطرقه وبيان اختلاف نقلته والأحسن أن يرتّبها على الأبواب ليسهل تناولها.

? أو يجمعه على الأطراف، فيذكر طرف الحديث الدال على بقيته ويجمع أسانيده، إما مستوعباً وإما مقيداً بكتب مخصوصة.

عبد الكريم بن عبد الله الخضير

عضو هيئة التدريس في قسم السنة وعلومها في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض وحاليا عضو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.

  • 12
  • 1
  • 33,023

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً