الأحكام السلطانية للماوردي - (31) ولاية القضاء(2)

منذ 2014-09-07

فَإِذَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ صَارَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَيَقْضِيَ، وَجَازَ لَهُ أَن يَسْتَفْتِيَ وَيَسْتَقْضِيَ، وَإِنْ أَخَلَّ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا أَنْ يَقْضِيَ.

وَأُالباب السادس: في ولاية القضاء(2)

أصُولُ الْأَحْكَامِ فِي الشَّرْعِ أَرْبَعَةٌ: 

أَحَدُهَا: عِلْمُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ مَعْرِفَةُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَمُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَعُمُومًا وَخُصُوصًا، وَمُجْمَلًا وَمُفَسَّرًا.

وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَطُرُقِ مَجِيئِهَا فِي التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَمَا كَانَ عَنْ سَبَبٍ أَوْ إطْلَاقٍ.

وَالثَّالِثُ: عِلْمُهُ بِتَأْوِيلِ السَّلَفِ فِيمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ؛ لِيَتْبَعَ الْإِجْمَاعَ وَيَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ فِي الِاخْتِلَافِ.

وَالرَّابِعُ: عِلْمُهُ بِالْقِيَاسِ[1] الْمُوجِبِ لِرَدِّ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا إلَى الْأُصُولِ الْمَنْطُوقِ بِهَا وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، حَتَّى يَجِدَ طَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ النَّوَازِلِ، وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، فَإِذَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ صَارَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَيَقْضِيَ، وَجَازَ لَهُ أَن يَسْتَفْتِيَ وَيَسْتَقْضِيَ، وَإِنْ أَخَلَّ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا أَنْ يَقْضِيَ.
فَإِنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ فَحَكَمَ بِالصَّوَابِ أَوْ الْخَطَإِ كَانَ تَقْلِيدُهُ بَاطِلًا وَحُكْمُهُ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ مَرْدُودًا، وَتَوَجَّهَ الْحَرَجُ فِيمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ قَلَّدَهُ الْحُكْمَ وَالْقَضَاءَ.

وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ تَقْلِيدَ الْقَضَاءِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لِيَسْتَفْتِيَ فِي أَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ وِلَايَتَهُ بَاطِلَةٌ وَأَحْكَامَهُ مَرْدُودَةٌ؛ وَلِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي فُرُوعِ الشَّرْعِ ضَرُورَةٌ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ إلَّا فِي مُلْتَزِمِ الْحَقِّ دُونَ مُلْزِمِهِ.
قَدْ اخْتَبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ وَالِيًا وَقَالَ: «بِمَ تَحْكُمُ؟» قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَهُ»[2].
فَأَمَّا وِلَايَةُ مَنْ لَا يَقُولُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ[3] فَغَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِأَصْلٍ قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَأَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَنْهُ مَأْخُوذَةٌ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَقُولُ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا تَجُوزُ وِلَايَتُهُ لِرَدِّ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ.

وَأَمَّا نُفَاةُ الْقِيَاسِ فَضَرْبَانِ:

ضَرْبٌ مِنْهُمْ نَفَوْهُ وَاتَّبَعُوا ظَاهِرَ النَّصِّ، وَأَخَذُوا بِأَقَاوِيلِ سَلَفِهِمْ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَطَرَحُوا الِاجْتِهَادَ وَعَدَلُوا عَنِ الْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمُ الْقَضَاءَ لِقُصُورِهِمْ عَنْ طَرَفِ الْأَحْكَامِ.

وَضَرْبٌ مِنْهُمْ نَفَوْا الْقِيَاسَ وَاجْتَهَدُوا فِي الْأَحْكَامِ تَعَلُّقًا بِفَحْوَى الْكَلَامِ وَمَفْهُومِ الْخِطَابِ كَأَهْلِ الظَّاهِرِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِمُ الْقَضَاءَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ.

وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهُ وَاضِحَ الْمَعَانِي وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ خَفِيِّ الْقِيَاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِاجْتِمَاعِهَا فِيهِ؛ إمَّا بِتَقَدُّمِ مَعْرِفَةٍ، وَإِمَّا بِاخْتِبَارٍ وَمَسْأَلَةٍ.
قَدْ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَاءَ الْيَمَنِ، وَلَمْ يَخْتَبِرْهُ لِعِلْمِهِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ وَصَّاهُ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَقَالَ: «إذَا حَضَرَ خَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْكَ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ»[4].
فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَمَا أَشْكَلَتْ عَلَيَّ قَضِيَّةٌ بَعْدَهَا، وَبَعَثَ مُعَاذًا إلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْيَمَنِ وَاخْتَبَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَصْلٌ:
وَيَجُوزُ لِمَنْ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُقَلِّدَ الْقَضَاءَ مَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ فِي قَضَائِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي النَّوَازِلِ وَالْأَحْكَامِ مَنِ اعْتَزَى إلَى مَذْهَبِهِ، فَإِذَا كَانَ شَافِعِيًّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَصِيرُ فِي أَحْكَامِهِ إلَى أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَمِلَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِهِ، وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَنِ اعْتَزَى إلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ، فَمُنِعَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَحْكُمَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُنِعَ الْحَنَفِيُّ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ لِمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ مِنَ التُّهْمَةِ وَالْمُمَايَلَةِ فِي الْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ، وَإِذَا حَكَمَ بِمَذْهَبٍ لَا يَتَعَدَّاهُ كَانَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ وَأَرْضَى لِلْخُصُومِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ السِّيَاسَةُ تَقْتَضِيهِ فَأَحْكَامُ الشَّرْعِ لَا تُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا مَحْظُورٌ، وَالِاجْتِهَادَ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ، وَإِذَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ بِحُكْمٍ وَتَجَدَّدَ مِثْلُهُ مِنْ بَعْدُ أَعَادَ الِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَقَضَى بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي الْمُشْرِكَةِ بِالتَّشْرِيكِ فِي عَامٍ، وَتَرَكَ التَّشْرِيكَ فِي غَيْرِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَكَذَا حَكَمْتَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَقَالَ: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي.
فَلَوْ شَرَطَ الْمُوَلِّي وَهُوَ حَنَفِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ عَلَى مَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْمُوَلِّي أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، وَأَمَّا صِحَّةُ الْوِلَايَةِ فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهَا، وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ أَوْ مَخْرَجَ النَّهْيِ، وَقَالَ: قَدْ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ فَاحْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ، أَوْ لَا تَحْكُمُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ -عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ، كَانَتْ الْوِلَايَةُ صَحِيحَةً وَالشَّرْطُ فَاسِدًا، سَوَاءٌ تَضَمَّنَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ وَافَقَ شَرْطَهُ أَوْ خَالَفَهُ، وَيَكُونُ اشْتِرَاطُ الْمُوَلِّي لِذَلِكَ قَدْحًا فِيهِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَطَ مَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكُونُ قَدْحًا إنْ جَهِلَ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُوَلِّيًا وَلَا وَالِيًا، فَإِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ فَقَالَ: قَدْ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ لَا تَحْكُمَ فِيهِ إلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَانَتْ الْوِلَايَةُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ.
وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: تَصِحُّ الْوِلَايَةُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ؛ فَلَا يَخْلُو الشَّرْطُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا فَقَالَ لَهُ: أَقِدْ مِنْ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ، وَمِنْ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَاقْتَصَّ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ، كَانَ أَمْرُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدًا، ثُمَّ إنْ جَعَلَهُ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ فَسَدَتْ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهَا صَحَّتْ، وَحَكَمَ فِي ذَلِكَ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَلَا يَقْضِي فِيهِ بِوُجُوبِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ فَصَارَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ نَظَرِهِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ وَيَنْهَاهُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي الْقِصَاصِ.
فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ يُوجِبُ صَرْفَهُ عَنِ النَّظَرِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنْ يَكُونَ صَرْفًا عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَخَارِجًا عَنْ وِلَايَتِهِ، فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ بِإِثْبَاتِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الصَّرْفَ عَنْهُ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْأَمْرِ بِهِ وَيُثْبِتُ صِحَّةَ النَّظَرِ إنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِي التَّقْلِيدِ، وَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ.
__________
[1] واعلم أنَّ القياس حمل فرع على أصل في بعض أحكامه، بمعنى يجمع بينهما، وقال بعض أصحابنا القياس هو: الأمارة على الحكم، وقال بعض الناس: هو فعل القائس، وقال بعضهم: القياس هو اجتهاد، والصحيح هو الأول؛ لأنه يطَّرِدُ وينعكس، ألا ترى أنه يوجد بوجوده القياس، وبعدمه يُعْدَم القياس، فدلَّ على صحته، فأمَّا الأمارة فلا تطَّرِد، ألا ترى أنَّ زوال الشمس أمارة على دخول الوقت وليس بقياس؟ وفعل القائس أيضًا لا معنى له؛ لأنه لو كان ذلك صحيحًا لوجب أن يكون كل فعل يفعله القائس من المشي والقعود قياسًا، وهذا لا يقوله أحد، فبطل تحديده بذلك، وأمَّا الاجتهاد فهو أعمّ من القياس؛ لأنَّ الاجتهاد بذل المجهود في طلب الحكم، وذلك يدخل فيه حمل المطلق على المقيد، وترتيب العام على الوجوه التي يطلب منها الحكم، وشيء من ذلك ليس بقياس، فلا معنى لتحديد القياس به.
والقياس حجّة في إثبات الأحكام العقلية وطريق من طرقها، وذلك مثل حدوث العالم وإثبات الصانع وغير ذلك، ومن الناس من أنكر ذلك، والدليل على فساد قوله: إن إثبات هذه الأحكلم لا يخلو إمَّا أن يكون بالضرورة أو بالاستدلال، والقياس لا يجوز أن يكون بالضرورة؛ لأنه لو كان كذلك لم يختلف العقلاء فيها، فثبت أن إثباتها بالقياس والاستدلال بالشاهد على الغائب، وكذلك هو حجة في الشرعيات، وطريق لمعرفة الأحكام، ودليل من أدلتها من جهة الشرع، وقال أبو بكر الدقاق: هو طريق من طرقها يجب العمل به من جهة العقل والشرع، وذهب النظام والشيعة وبعض المعتزلة البغداديين إلى أنه ليس بطريق للأحكام الشرعية، ولا يجوز ورود التعبد به من جهة العقل.
وقال داود وأهل الظاهر: يجوز أن يرد التعبّد به من جهة العقل، إلَّا أن الشرع ورد بحظره والمنع منه، والدليل على أنَّه لا يجب العمل به من جهة العقل أنَّ تعليق تحريم التفاضل على الكيل أو الطعم في العقل ليس بأولى من تعليق التحليل عليهما، ولهذا يجوز أن يرد الشرع بكل واحد من الحكمين بدلًا عن الآخر، وإذا استوى الأمر أنَّ في التجويز يبطل أن يكون العقل موجبًا لذلك، وأمَّا الدليل على جواز ورود التعبّد به من جهة العقل هو أنه إذا جاز أن يحكم في الشيء بحكمٍ لعلة منصوص عليها جاز أن يحكم فيه منصوص عليها، وينصب عليها دليلًا يتوصّل به إليها، ألا ترى أنَّه لمَّا جاز أن يؤمر من عاين القبلة بالتوجُّه إليها جاز أيضًا أن يؤمر من غاب عنها أن يتوصَّل بالدليل إليها، وأما الدليل على ورود الشرع به ووجوب العمل به فإجماع الصحابة. (اللمع في أصول الفقه: ص [96]).
[2] ضعيف: (رواه أبو داود في (كتاب الأقضية [3592]، والترمذي في (كتاب الأحكام [1327])، والدارمي في (المقدمة [168])، وأحمد [21502]، وقال الشيخ الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة [881]: منكر).
[3] خبر الواحد لغةً: ما يرويه شخص واحد، واصطلاحًا: ما لم يجمع شروط التواتر، والخبر: لفظ مجرَّد عن العوامل اللفظية مسند إلى ما تقدمه لفظًا نحو: زيد قائم، أو تقديرًا نحو: أقائم زيد. خبر كان وأخواتها هو المسند بعد دخول هذه الحروف (التعاريف: ص [306]).
قال الفيروزآبادي: يقبل خبر الواحد وإن كان مخالفًا للقياس ويقدم عليه، وقال أصحاب مالك: إذا كان مخالفًا للقياس لم يقدّم. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان مخالفًا لقياس الأصول لم يقبل (التبصرة: ص [317]).
[4] حسن: (رواه أبو داود في (كتاب الأقضية [3582])، والترمذي في (كتاب الأحكام [3582])، وأحمد [692]، وحسنه الشيخ الألباني).

الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
  • 1
  • 0
  • 4,671
المقال السابق
(30) ولاية القضاء(1)
المقال التالي
(32) ما تنعقد به ولاية القضاء" (3)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً