ملامح المنهج الإسلامي التربوي في المنع

منذ 2014-09-10

المنهج التربوي الإسلامي فيما يتعلق بالمنع يهتم بمخاطبة القلب الإنساني وبناء قيمه ومخاطبة العقل وإقناعه وبيان خطر وضرر الممنوعات وتيسير البدائل المباحة والممكنة

اعتاد أصحاب النظريات التربوية وخصوصًا الغربيون، أن يرفضوا عملية المنع في تربية الأبناء، فهم يعتبرون التربية بالمنع هي أضعف أنواع التربية، وأنها تخلف شخصية مشوهة، وأنها تضعف نفوس الأبناء وتقتل عندهم دوافع المواجهة والشجاعة في التعامل مع المواقف المختلفة.

كما يعتبر كثير من المتصدرين للعملية التربوية أن المنع هو نوع من التخلف والرجعية، إذ الحجب -برؤيتهم- هو منع عن حرية الاختيار. فهم يرون أن المنع هو وسيلة الخائف العاجز عن إيجاد وسائل وحلول لمشكلات يواجهها، وأننا لو تأملنا صورة إنسان ما في مجتمع مانع وصورته نفسه في مجتمع مفتوح لوجدنا أن شخصيته في المجتمع المفتوح هي الأقوى والأكثر تمثيلاً لشخصيته، لأنها لا تقوم على الرهاب أو الضغط الجمعي وإنما تنطلق من قناعات ذاتية دون مؤثرات.

ورؤيتهم وإن كانت تحمل قدرًا من الصوابية في كون الإرغام على الفعل أو عدمه يسلب الشخصية قدرتها على القرار في المواقف المختلفة، إلا أنها تحمل قدرًا أكبر من التلفيق والخلط والخطأ، إذ تتناسى أن الإسلام قد وضع رؤية متكاملة لعملية المنع، فلم يجعلها عشوائية، بل جعلها منهجية علمية إيمانية، فرؤيتهم تحتاج إلى تقويم وبيان كما تحتاج عملية المنع التربوي إلى تأصيل صحيح في مناهجنا التربوية الإسلامية، غير مقلدين فيها الغرب.

فلا شك أن الحالة الحديثة للمجتمعات العالمية مع انتشار واتساع التعامل مع وسائل التواصل والاتصال جعلت العالم كله قريبًا من بعضه في إنتاجه المعرفي فيما يخص التبادل فيه والمعاملة، وهذا العالم بالفعل هو عالم منفتح. كذلك نتفق أن الممنوع يكاد أن يكون مرغوبًا، وأن المنع العشوائي في حالات كثيرة يؤدي إلى زيادة التمسك بالممنوعات لمجرد الفضول والاكتشاف ابتداءً. لكن على الجانب الآخر فالمؤيدون للمنع التربوي يصفون رافضي المنع بالمنحلين خلقيًا والمنحرفين قيميًا وينظرون للمجتمعات المتساهلة في المنع بأنها مجتمعات متفسخة وأن ثقافتها ثقافة متدنية.

هناك رؤية متكاملة قدمها المنهج التربوي الإسلامي لعملية المنع التربوي تجمع الفضائل في عملية المنع التربوي وتقوم السلبيات، وتضع إطارًا مقبولًا وناجحًا وقابلًا للتطبيق، وهي رؤية تقوم على عدة محاور:

فالله سبحانه خالق الإنسان، ويعلم ما يصلحه فأمره به وعلم ما يفسده فنهاه عنه، كما علم ما يصلح مجتمعه فحثه عليه وعلم ما يفسد مجتمعه فمنعه منه.

وهذا الخالق العظيم سبحانه لما أراد صلاح الناس والإصلاح في الأرض أرسل لهم رسلا منهم يدلونهم على طرائق الصلاح ووسائله، وأرسل لهم من الشرائع تفصيلا لكل شيء، فلا يحتاج المؤمن بها إلا أن يتبعها تفصيليًا ليكون في مأمن دائم سواء في حياته أو في آخرته.

هذه الشرائع قد فتحت مساحات واسعة من الأرض وخيراتها ومن الموجودات ومن الأشياء ومما يحيط بالناس من الكون، مساحة خضراء مسموح بها في التعامل والانتفاع، كما جعلت خطوطًا حمر فمنعت بعض الأشياء وحذرت من قربها، وكان هذا جليًا في قصة بدء الخليقة، كما هو واضح في آيات كثيرات، فهي تجعل الأصل الإباحة والسماح وتجعل أشياء معينة قليلة بل أقل من القليل محظورة كما في قوله تعالى فيما يخص المحرمات: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145]، وهذه الطريقة متبعة أيضًا على المستوى التربوي والأخلاقي.

والإسلام يؤكد ابتداءً على سعة مساحة المباحات، كما يؤكد على كفاية ما أباحه لسد حاجة الإنسان وتحقيق استقراره وقيام توازنه مع ضآلة قدر ما منعه. كما يبين للناس أن هذا الممنوع ليس صالحًا ولا نافعًا ولا مفيدًا، بل كل ما منعه فيه ضرر سواء معلوم أو غير معلوم وسواء مشاهد أو خفي {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]... والطيبات والخبائث أيضًا تنطبق على السلوكيات والأخلاقيات وغيره.

كما أن هناك أصلا يسبق كل ذلك في الأهمية، إذ الممنوعات يعاقب الرب سبحانه مقترفها، ويغضب على الواقعين فيها، فيسوء جزاؤهم في الدنيا والآخرة، فيخسرون التوفيق والتيسير ويمنعون البركة، ويتعرضون لشتى أنواع العقوبة. والمنهج التربوي الإسلامي في بيان الممنوعات يعتمد على البيان والبلاغ وإظهار ما تيسر من الحكمة في ذلك، كما يعتمد على الثقة في التشريع فيما خفيت حكمته بأن الشريعة لا تأتي إلا بخير.

فالممنوعات يجب تعريفها وبيان طرائق الابتعاد عنها، كما ينبغي مساعدة المتربين في اجتنابها، وتقوية نفوسهم في ذلك، وتدريب قلوبهم عليه حتى يكون البعد عن الممنوع عن قناعة نفسية وطمأنينة قلبية وتفهم عقلي، لا لمجرد الأمر بالمنع، وتقديم البدائل المباحة والمرغوبة وتحسينها وتجميلها وحثهم عليها وتشجيعهم على ممارستها وبيان منافعها وفضائلها مطلوب أيضًا.

وبناء القيم فيما يتعلق بالممنوعات هو أيضًا من أسس بناء الفكر فيما يخص عملية المنع التربوي، فقيمة الثقة في التشريع مثلا قيمة مهمة للغاية يجب بثها في قلوب الأبناء، حتى إذا علم أحدهم بخبر المنع رضيه وتقبله ووثق في كونه ما منع إلا لشرٍ يلحقه، إذ إن الله سبحانه يريد بعباده الخير واليسر والهدى.

وترسيخ قيمة المراقبة دافع أساسي في اجتناب الممنوعات الشرعية، فالمتربي يستشعر مراقبة الله سبحانه في كل مكان هو فيه، فحتى لو تفرد أو اغترب أو بعد أو نأت به الظروف، فإن مراقبته لربه سبحانه ستنهاه عما حرم ربه سبحانه والمنهج الإسلامي يعطي أكثر من صورة ومثال لذلك، ومن أهمها موقف النبي يوسف عليه السلام المغترب، الوحيد الضعيف، الشاب، إذ أحاطته الفتن من كل جانب لكن بمراقبته لربه رفضها وامتنع عنها.

وترسيخ قيمة الطهارة بمعنييها الداخلي والخارجي يدعمان نفس المؤمن في بعده عن الممنوعات، فهو يريد نفسه طاهرة من الرجس والنجس والفحشاء والمنكرات جميعها إذ الله سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين.

كذلك بناء قيمة الاعتزاز بهذا الدين وبتوجيهاته، والفخر بالانتماء إليه، وعدم الانكسار أمام زخرف الناتج الحضاري القادم من الشرق أو الغرب بل الانتفاع منه بالمناسب المباح وترك الممنوع والمحرم.

والخطاب العقلي العلمي مهم عند الحديث عن الموانع التربوية، فاحترام عقول المتلقين وتقدير ذواتهم وقدراتهم العقلية يؤثر إيجابيًا في تيسير تطبيق المنع. كما أن الخطاب المشاعري القلبي هو الآخر دافع مهم للالتزام بالمنع، وناجح في التذكير بأضرار الممنوعات وشرورها، وليس الخطاب القلبي مجرد موعظة عابرة لمنع المرء عن المحرم، بل هو أسلوب خطاب راق رقيق، يشعر المتربي بالمشاركة والمحبة ويشعره بالرغبة في معونته ومساعدته..

فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: «إن فتى شابًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء» (رواه أحمد). وفي رواية أخرى: وقال: «اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحَصِّنْ فرْجَه»، فلم يكن شيء أبغض إليه منه- الزنا.

فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم عقل الشاب وخاطب قلبه، والتفت لشكواه، وأعانه على ما يجد من مشكلة و ودعا له الله أن يطهر قلبه ويحصن فرجه.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم في موقف آخر حرص على البيان والتفهيم مع المنع وإن كان المخاطب صغيرًا جدًا، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: أخذ الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «كخ كخ! ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» (متفق عليه).

إذن فإن المنهج التربوي الإسلامي فيما يتعلق بالمنع يهتم بمخاطبة القلب الإنساني وبناء قيمه ومخاطبة العقل وإقناعه وبيان خطر وضرر الممنوعات وتيسير البدائل المباحة والممكنة ويأمر بحسن المعاملة والرفق في الإنكار أثناء العملية التربوية، ويأمر بمساعدة المتربين وتقديم المعونة لهم في ذلك.

خالد رُوشه| 25/10/1435 هـ

  • 3
  • 0
  • 6,438

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً