آلام الآخرين
محمد علي يوسف
مهما بلغت فصاحة عبارات المواساة وسخونة عبرات التعاطف فإنها لا تكفي لتسكينها.. تلك آلام ليس لها من دون الله كاشفة، وليس لوجعها من دون تثبيته وتخفيفه مسكنات أو مهدئات، لكنها بلا شك تزداد حين لا تجد المواساة والتقدير المفترض، وربما تتضاعف وتتفجر حينما تجد العكس، حينما تجد استهانة وعدم اكتراث أو تحقيرًا وتهوينًا من شأنها، ممن يفترض أنهم أطباء رحماء، حين تقابل مخاوف أب أو أم على فلذة كبديهما بضحكات ساخرة تستخف بآلامهما، وتستهين بقلقهما وإشفاقهما.. قد يرسل الله مذكرًا أو منبهًا لتلتفت، ولتتأمل ولتُقَدِّر، ولا تنسينك نعمة العافية أن هناك من يتألم.
- التصنيفات: تزكية النفس - محاسن الأخلاق -
"إن أكثر أنواع الألم التي يمكن أن يتعايش معها الإنسان هي آلام الآخرين"، كانت تلك المقولة من أول ما سمعت أثناء دراستي العملية في كلية طب الأسنان، كنت أتأملها بنوع من التشكك في مستهل حياة يفترض أنها ستمتلىء بالتعامل مع الألم بحكم المهنة التي أنا مقبل على ممارستها..
حين سمعتها من أحد أساتذتي في الكلية كانت في سياق التهوين من شأن تلك المشاعر المتدفقة بالشفقة والرحمة، والتي كانت تبدو على وجوه المستجدين والمستجدات على تلك المهنة الصعبة، والتي تعد أنات الألم وتأوهات المرضى المساكين خلفية مستمرة لها، كأنما هي موسيقى تصويرية قاتمة تتعالى في أرجاء المكان لتعزف لحنا جنائزيًا حزينًا..
يومها قلت لنفسي هذه ليست قاعدة دقيقة بلا شك، أو ربما هي خاصة بغلاظ القلوب من البشر، واستبعدت تمامًا أن أكون ممن يألفون آلام الغير ولا يتعاطفون مع أناتهم ولا يرقُّون لتأوهاتهم، وكيف لا أرق لطفل باكٍ أو عجوز متألمة، أو ضعيف يأن بأوجاع يرى كثير من العلماء أنها تعد من أصعب الأوجاع التي تصيب الجسم ومن أشدها قسوة وإيلاما..!
لكنني كنت واهمًا..
يبدو أن المقولة الصادمة صادقة إلى حد بعيد، ويبدو أنني بالتدريج ودون أن ألحظ قد تعايشت فعليًا مع آلام الآخرين، لم أدرك ذلك تمام الإدراك إلا حينما أصابني ما أصابهم! واضطررت لأن أجلس مجلسهم وأتعرض لما يتعرضون إليه..!
لم أكن أتصور لحظة أن مرضاي قد يعانون لهذه الدرجة، لم أكن أنتبه بشكل كاف حين يقولون أن المسكنات لا تفعل شيئًا، وأن أبناءهم سرعان ما يعاودون البكاء من شدة الألم، كنت أحيانًا أقول لنفسي لعل احتمالهم ضعيف أو ربما هم يبالغون ويدللون أطفالهم..!
للأسف تعايشت مع آلامهم ولم أشعر بها حقًا حتى ذقت بنفسي، ومن ذاق عرف، لكنه في هذه الحالة لن يحب أن يغترف! مهما بلغ دقة وصف الألم وبراعة التراكيب، وبلاغة العبارات فلن يشعر بحقيقة الأمر إلا من تألم بألم صغيره، -أسأل الله أن يعافي كل أبنائنا- هذا نوع من الألم رغم أنه نظريًا يندرج تحت آلام الآخرين، إلا أن العبارة التي صدرت بها كلامي لا تصدق فيه أبدًا.
إنهم ليسوا أي آخرين!
وإن آلامهم ليست مما يمكن التعايش والتكيف معه..
قد يبدي المرء أحيانًا تعاطفًا ورحمة، لكن الفارق لم يزل كبيرًا بين من ذاق وبين من لم يذق.
وإن الألم البدني على قسوته قد يكون أحيانًا أهون بكثير من آلام النفس، وتلك الأخيرة للأسف هي أكثر ما يتعايش معه كثير من الناس، آلام على قسوتها وشدة وطأتها غير ملحوظة، ربما لا يصاحبها تأوه أو صراخ، لكنها تدمي قلب المتألم وتمزقه من الداخل..
ومهما بلغت فصاحة عبارات المواساة وسخونة عبرات التعاطف فإنها لا تكفي لتسكينها..
تلك آلام ليس لها من دون الله كاشفة، وليس لوجعها من دون تثبيته وتخفيفه مسكنات أو مهدئات، لكنها بلا شك تزداد حين لا تجد المواساة والتقدير المفترض، وربما تتضاعف وتتفجر حينما تجد العكس، حينما تجد استهانة وعدم اكتراث أو تحقيرًا وتهوينًا من شأنها، ممن يفترض أنهم أطباء رحماء، حين تقابل مخاوف أب أو أم على فلذة كبديهما بضحكات ساخرة تستخف بآلامهما، وتستهين بقلقهما وإشفاقهما.. قد يرسل الله مذكرًا أو منبهًا لتلتفت، ولتتأمل ولتُقَدِّر، ولا تنسينك نعمة العافية أن هناك من يتألم.
ولكي لا تغفل وتألف الألم فلا تقدره حق قدره، أو يأتي عليك يوم تستخف به وتهون من شأنه، ولتعتذر وتتأسف وتتوب إن كنت قد قسوت يومًا ولم ترحم أو تقدر، تعتذر وتتأسف وتتوب إن كنت قد استهنت يومًا بآلام الآخرين، وقللت من وقعها ولم تعرف ذلك المعنى! معنى: (آلام الغير)، تلك الآلام التي لا يعني عدم شعورك بها أنها ليست موجودة، أو أنها أسهل أو أهون لا لشيء إلا لأنها فقط..