قراءة في كتاب (القيادة المرتكزة على المبادئ)
محمد العبدة
عندما أراد ابن خلدون المؤرخ وعالم الاجتماع الإسلامي أن يرجع إلى العصور الإسلامية الأولى، ليبحث عن العلّة التي بدأ منها التراجع، أو عن بداية الخلل، وجدها في تغيّر الصلة بين القيادة والأمة.
- التصنيفات: التصنيف العام -
تمهيد
عندما أراد ابن خلدون المؤرخ وعالم الاجتماع الإسلامي أن يرجع إلى العصور الإسلامية الأولى، ليبحث عن العلّة التي بدأ منها التراجع، أو عن بداية الخلل، وجدها في تغيّر الصلة بين القيادة والأمة. لقد تبدلت الطاعة، ففي عهد الراشدين كانت الطاعة قائمة على الدين الخالص، فالمسلم يطيع الخليفة تديناً لا طمعاً في مغنم من مال أو منصب أو جاه، ولا خوفاً من أذىً أو ذهاب دنيا، كانت الطاعة قائمة على الثقة المتبادلة، على المشاركة في الأهداف والغايات، فالمسلم له كرامته ويتحمل المسؤولية ويعتبر نفسه جزءاً من رسالة يؤديها الحاكم والمحكوم، رسالة ترتقي بالإنسان لتحقيق الخير والعدل والسعادة في الدنيا والآخرة.
عندما يكون الخوف هو الوازع للناس ليقدموا الطاعة فقد يعطي هذا نوعاً من الاستقرار، ولكنِّه استقرار خادع وتوافق ظاهري والتزام سطحي، وفي أول فرصة عندما تغيب المراقبة وينتهي التهديد سيتحول هذا الاستقرار إلى التدمير وإلى التنازع، إن نموذج السيطرة القائمة على الإرغام والعصا الغليظة، سوف يؤدي إلى الشك والكذب والانحلال على المدى البعيد لأنك عندما تجرد الإنسان من كل شيء فستفقد السيطرة عليه.
عندما يكون الوازع هو الحصول على المغنم، هنا تتحول القضية إلى صفقات متبادلة بين القائد والأتباع، القائد يريد الدعم والاهتمام والمال وفي المقابل يرضي الأتباع بما يريدونه من مزايا دنيوية مثل الترقية والحصول على المعلومات، هذه العلاقات المنفعية سوف تؤدي إلى تغلب روح الفردية وإبعاد روح الفريق كعمل منتج.
وأما القياده التي ترتكز على المبادىء، فالناس يتبعونهم لأنهم موضع ثقة واحترام وتقدير وهناك هدف أكبر للجميع. ولكنها ليست طاعة عمياء، بل هو التزام قائم على المعرفة.
أهمية القيادة وضرورتها
القيادة هي العمل المركز الموجه لتحقيق أهداف سامية، عنايتها الأولى ليست بإدارة الأشياء بل بتطوير الأشخاص وإطلاق كافة مواهبهم وإشراك مزيج غني من الناس مختلفيِّ الطاقات في التطلع للمستقبل، ويشير الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من الأمة الاهتمام بموضوع القيادة، قال صلى الله عليه وسلم: « »، يعلق العلامة عبد الرحمن بن سعدي على هذا الحديث: "مضمون هذا الخبر إرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلى أنه ينبغي لمجموع الأمة أن يسعوا في تأهيل الرجال الذين يصلحون للقيام بالمهمات والأمور الكلية العامة النفع". وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجاً لأمته في هذا الجانب، فهو الخبير في اكتشاف طاقات الصحابة، يستشيرهم ويشاركهم في القرار (بدر وأحد والخندق ...).
ويشاركهم في بناء المسجد، لقد بنى فريقاً مثالياً بخطوات وئيدة، ينضجها القرآن الكريم ويوجهها من خلال الجد والاجتها، والصبر والابتلاء، فالقيادة الحقيقية تبدأ من أعماق النفس ومن خلال انضباط النفس، كان صلى الله عليه وسلم عالماً بنفوس صحابته، واقفاً على أسرار أخلاقهم، فعامل كل واحد منهم المعاملة اللائقة حتى أشُربت القلوب محبته، فلم ينفض أحد من حوله.
اهتم الغربيون في العصر الحديث اهتماماً بالغاً في موضوع القيادة والإدارة، عشرات ومئات الكتب المؤلفة في هذا الجانب ومن الأسماء التي اشتهرت في عالم التأليف في هذه الموضوعات صاحب كتاب (العادات السبع للناس الأكثر فعالية)، والكتاب الذي نحن بصدده [1] (القياده المرتكزة على المبادىء).
ومن البداية يؤكد المؤلف على أن المبادئ الصحيحة مثل البوصلات حيث تشير دائماً إلى الوجهة الصحيحة (الشمال)، فإذا كنا نعرف كيف نقرأ البوصلة، فلن نضل الطريق، ولن تخدعنا الأصوات أو القيم المتعارضة وهذه المبادىء موجودة في كل زمان ومكان، حيث تظهر في صورة قيم وأفكار ومعايير وتعاليم تسمو بالناس وتقويهم وتلهمهم، وأي انتهاك لهذه المبادىء الصحيحة فسوف تكون النتيجة انحدار المجتمعات والكوارث الاقتصادية والثورات السياسية والحروب الأهلية.
وهي مبادىء لا تتغير ولا تتحول، يسميها المؤلف: مبادىء طبيعية مجمع عليها بين [2] الخلائق، هذه المبادىء هي المركز الذي يؤمننا، هي القوة الداخلية في حياتنا، إنها تكوّن لدينا شعوراً بالقدرة على التنظيم والسيطرة على كل شيء في حياتنا، بما في ذلك الوقت والمواهب والمال والممتلكات والعلاقات، وتعطينا شعوراً بقيمتنا وهويتنا، وبالشجاعة اللازمة لإنجاز الأشياء. ولعل ما كتبه المؤلف في أحد الفصول عن الأخطاء السبعة القاتلة، ما يزيد في وضوح المبادىء التي يرى أنه لا بد منها للقيادة وللبشر بشكل عام.
إن هذه الأخطاء خرق للمبادىء الطبيعية ومن هذه الأخطاء القاتلة:
1ـ الثروة دون عمل: أي التلاعب بالأسواق وتكوين الثروات دون تعب.
2ـ المعرفة دون نزاهة شخصية، فالتطور العقلي دون تطور داخلي مساوٍ في نزاهة الشخصية أشبه بإعطاء مراهق سيارة رياضية عالية السرعة.
3ـ العلم دون إنسانية، ونخشى أن نصبح ضحايا التكنولوجيا إذا لم يكن لدينا فهم جيد للأهداف الإنسانية العليا التي تعمل التكنولوجيا لتحقيقها.
4ـ السياسة دون مبدأ، وإذا لم يوجد مبدأ فلن توجد وجهة صحيحة، وستكون النتيجة مؤسسة أو مجتمعاً مريضاً ذا قيم مشوهة.
وإذا كان الحديث هو عن القادة الذين يتصرفون من خلال المبادىء فلا بد أن يتميزوا بخصائص معينة يتحدث المؤلف عن هذه الخصائص في النقاط التالية:
1ـ إنهم يتعلمون باستمرار، حيث يقرؤون ويبحثون عن التدريب والدورات التعليمية، ويستمعون للآخرين ويطرحون الأسئلة باستمرار.
2- يعتبرون حياتهم رسالة وليست مهنة، يستيقظون كل صباح وهم يضعون تقديم الخدمة للآخرين في أذهانهم.
3ـ إنهم ايجابيون تغلب عليهم التوجهات المتفائلة، ولذلك فهم يملكون القدرة على جذب مجالات الطاقة الإيجابية الأقل قوة من مجالاتهم، ويزيدون من قوتها.
4ـ إنهم لا يحملون الضغائن، وبطبيعتهم لديهم رغبة في العطف والصفح عن الآخرين ونسيان إساءاتهم، إنهم يعلمون أن لدى الناس قدرات غير ظاهرة يجب اكتشافها، بل يرون في البذرة الصغيرة شجرة ضخمة، ويعرفون العملية اللازمة لتحويل هذه البذرة إلى تلك الشجرة الضخمة.
5ـ يحيون حياة متوازنة، يتميزون بالنشاط الذهني، يقرأون أفضل الكتب والمجلات، على اطلاع على الأحداث الجارية، يشعرون بقيمتهم ولكنهم لا يتباهون بأنفسهم أو بمعرفتهم أو بما لديهم من شهادات أو إنجازات سابقة، ولا يتلاعبون بغيرهم يفضلون التصريح الضمني على المبالغة في التعبير، ليسوا متطرفين لا ينظرون بمنظار: إما كل شيء أو لا شيء. بل يفكرون بطريقة الأولويات، لا يغرقون في التفكير في الأمس ولا يقضون الوقت في الحلم بالمستقبل بل يعيشون بمنطقية في الحاضر ويخططون بحرص للمستقبل.
6ـ إنهم بسبب شعورهم بالأمان الذي ينبع من داخلهم فإنهم يقاومون التبعية لأي شخص، وينظرون للوجوه القديمة نظرة متجددة، إنهم أشبه بمستكشفين شجعان في رحلة استكشافية لأرض غير مأهولة. وشعورهم بالأمن يكمن في روح المبادرة وفي سعة مصادرهم ومواردهم وقوة إرادتهم.
7ـ إنهم متعاونون، والتعاون هو الحالة التي يصبح فيها الكل أكبر من الجزء، وعندما يعملون في فريق عمل فإنهم يوظفون نقاط قوتهم ونقاط قوة الآخرين، إنهم لا يشعرون بالتهديد عندما يرون غيرهم أفضل منهم في بعض الأمور، ويركزون على اهتمامات الآخرين أكثر من الدفاع عن مواقفهم، وبذلك يكتشف من يتعامل معهم شعوراً بالأمان ويدخل الجميع في عملية إبداعية لحل المشاكل.
وتحت عنوان تغيير النموذج الإداري يذكر المؤلف أربعة أنواع من القيادات والإداريين ومع أنه يتحفظ على هذا التقسيم لأن طبيعة البشر ليس بهذا التقسيم الحاد، إلا أن فائدة ذكرهذه الأنواع واضحة لنتعرف على عقلية بعض القادة الإداريين.
1ـ النموذج الذي ينظر للبشر على أساس أنهم (كائنات اقتصادية)، فالمدير هنا يستعمل نظرية العصا والجزرة، والقائد هنا يقول عن نفسه: أنا المسيطر وأنا من يعرف ما هو الأفضل، والناس مذعنون ليحصلوا على المكافئات الاقتصادية وكسب العيش لأنفسهم ولعائلاتهم. ويُسمي المؤلف هذا النموذج نموذج (البطن).
2ـ نموذج العلاقات البشرية: القائد هنا يعلم أن البشر لا تحركهم بطونهم فحسب بل وقلوبهم أيضاً (مخلوقات اجتماعية)، هنا يتحول المدير أو القائد إلى أسلوب سلطوي ولكنه لطيف ومحب وحنون، هو يقول القوة ما تزال بأيدينا ولكننا أناس طيبون وعادلون، ونحن إما أن نكون ضعفاء أو أقوياء وإذا لم نتول السيطرة فسوف يسيطر غيرنا، ويسمى هذا نموذج (القلب).
3- نموذج الموارد البشرية: هنا لا يقتصر التركيز على العدل والعطف، ولكن البشر مخلوقات مفكرة أيضاً، ويجب أن نخرج ما لديهم من مواهب وإبداع ونبدأ في تفويض المزيد من المهام إليهم، فالمورد الرئيسي ليس الأصول الرأسمالية أو الخصائص البدنية بل الناس بعقولها وقلوبها، الناس بحاجة إلى النمو والتطور (مخلوقات نفسية)، ويجب أن يسهم الناس بما لديهم من مواهب لتحقيق أهداف المؤسسة ويسمى هذا نموذج (العقل).
4ـ القيادة القائمة على المبادىء: وهي التي تتعامل مع الإنسان بكامل كيانه، فهو ليس اقتصادياً أو اجتماعياً أو نفسياً فحسب، بل هو كائن يريد مغزى من الحياة. الناس هنا يفعلون أشياء ذات قيمة وأهدافاً تؤدي إلى الشعور بالرفعة والنبل يريدون أن يكونوا جزءاً من الرسالة والمشروع الذي يتجاوز مهامهم الفردية، القيادة هنا تظل قوية لأنها لا تعتمد على حدوث أو عدم حدوث شيء مرغوب للتابع، والأتباع مستعدون للمخاطرة لفعل الأشياء الصحيحة لأنهم يشعرون بقيمتهم. ويسمى هذا النموذج (نموذج الروح).
إن نموذج (المعدة) يقول: ادفع لي راتباً جيداً.
ونموذج (القلب) يقول: عاملني جيداً.
ونموذج (العقل) يقول: وظفني جيداً.
ونموذج (الروح) أو الشخص ككل يقول: دعنا نناقش الرؤية والرسالة والأدوار والأهداف، إنني أريد أن أقدم إسهاماً ذا مغزى.
من الواضح ومن خلال مضمون الكتاب وما كتبه المؤلف سابقاً أنه يركز على الجوانب الإنسانية والأخلاقية والمبادىء المتفق عليها بين عقلاء البشر والقيم التي جاءت بها الرسالات السماوية، والتي أكدت أيضاً على مبادىء عليا مثل حق الحياة وحق الحرية.
والمؤلف عندما يركز على هذه الجوانب لأنه يرى ما يحدث في الواقع عندما تخالف القيادات السياسية أو الشركات الكبرى هذه المبادىء ما يحل بها من تدهور وفشل.
الشركات التي تبتعد عن النزاهة ورجال الأعمال الذين يبتعدون عن التعامل الأخلاقي والسياسيون الذين يتصرفون دون مبادىء عليا كل هذا كان عاقبة أمره خسراً وقد أغرقت البشرية بالنزاعات والتدمير والظلم.
وهذا الذي يركز عليه المؤلف هو من صميم الثقافة الإسلامية، يقول العلامة ابن خلدون مؤكدا على هذه المعاني "فإذا نظرنا إلى أهل العصبية (أهل الحكم)، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الوفاء بالعهد وتعظيم الشريعة والانقياد للحق، والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد علمنا أن خلق السياسة قد حصلت لهم. وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك ارتكب أهلها المذمومات وانتحلوا الرذائل فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة"
إنها سنن الله سبحانه في صلاح البشرية وسعادتها أو انتكاستها وتحطمها، إنها سنن التقدم والتأخر للأفراد والمجتمعات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ستيفن كوفي (القيادة المرتكزة على المبادىء)، مكتبة جرير[ط2 / 2013].
[2] لا شك أن أصول هذه المبادىء التي يتحدث عنها المؤلف هي من الرسالات السماوية وتعاليم الأنبياء، وهو يقول: من الأديان تعلمنا: يجني الإنسان ما يزرعه والأفعال أهم من الأقوال، ويتحدث أحياناً عن مبادىء هي من السنن الكونية مثل المبدأ الذي يكرر ذكره وهو (قانون المزرعة)، أي لا بد من الأخذ بالأسباب، نزرع ثم نعتني بالزرع ثم ننتظر حتى يأتي موسم الحصاد.