أطفالُنا والإلحاد!
رحاب حسَّان
وتبقى مشكلة أبنائنا في أنهم يتعلمون العلوم المادية في المدرسة على أنها -فقط- هي العلوم اليقينية والحقائق التي لا تراجع فيها...
أما باقي الحقائق الأبعد (الغيبية) فغالبًا ما يتم تعليمها إما بطريقة مقتضبة في حصة مستقلة وهي حصة الإسلام (الدين).
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
في أول يوم في الروضة:
سيعلمون طفلك معلومة رائعة عن "الحواس الخمسة "five senses"
وعلى أنها الدالة الوحيدة على الوجود من حوله، وأن الحقائق لا تُعرف سوى عن طريق (البصر، والسمع، والشم، واللمس، التذوق).
والصحيح أن الحواس الخمسة ما هي سوى نوع من أنواع المدركات التي نستكشف بها الوجود من حولنا وهو الوجود الماديّ؛ ولكن الوجود المادي ليس هو كل الوجود في الحقيقة؛ بل هناك وجود غيبيّ ووجود عقليّ معنويّ، وإن كان الأقرب للطفل هو الدليل المادي فينبغي أن يعّلم أنه ليس كل شيء في الكون.
لذا لا بد ان نعلِّمه أيضًا أن هناك مُدرَكًا عقليًا وأنه يتوزع بين الدماغ والقلب في معرفة بعض الحقائق التي لا تستند على الحواس الخمسة، ودليل ذلك (التفكير المستمر) فهذه عملية حقيقية لا ندركها بالحواس الخمسة، والعمليات الرياضية المحضة (1+1=2) هذه أيضا عمليات عقلية لا ندركها بالحواس الخمسة، ولكن لولاها لواجهنا عوائق ضخمة في تعاملاتنا الحياتية مثل البيع والشراء، والقسمة والعدل بين الناس مثلا -عليك إذًا تبسيط الأمر كيفما شئت-....
وبما أن هناك مدرَك آخر غير المدرَك الحسي وهو العقلي الذي لا نراه؛ فهناك مدرَك ثالث غيبي لا نراه أيضًا ومعرفته توقيفية تلقينية وهو الإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله، وهو مدخل للإيمان بالقرآن والسنة النبوية أي كل ما بلغه لنا النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
-وإن كان المدرك الغيبي يُعرف بداهة عن طريق الفطرة النقية التي تعلم أن الله تعالى خالق كل شيء ومليكه-.
لكن تبقى مشكلة أبنائنا في أنهم يتعلمون العلوم المادية في المدرسة على أنها فقط هي العلوم اليقينية والحقائق التي لا تراجع فيها، فيمكنك في المدرسة أن تشك في كل شيء إلا في قواعد الفيزياء مثلا، أو حتى في المعلومات الأولية في فترة الروضة، وهذا بناء على فلسفة العصر والتأثر بالحضارة الغربية المادية، (على الرغم من أن هؤلاء العلماء أنفسهم يتراجعون كل يوم عن بعض ما أدخلوه من علوم وقواعد علمية، فالعلوم في نمو مستمر وبعضها يجُبُّ الآخر لا يدعمه دومًا، والحقائق الكونية أمرٌ يختلف عن النظريات العلمية).
أما باقي الحقائق الأبعد (الغيبية) فغالبًا ما يتم تعليمها إما بطريقة مقتضبة في حصة مستقلة وهي حصة الإسلام (الدين) وتواجَه بفتور كبير أو على العكس باهتمام ولكنه ليس في حيز الأهمية بل يتم تلقين الطفل بطرق ليست في مستواه العمري والعقلي، أو كان ذلك في المنزل بصورة عفوية غير نظامية.
إلا أن الربط بين مجموعة الحقائق الثلاثة السابقة (الغيب والعقل والمادة) غاية في الأهمية، كما أن الربط بين مجموعة المدركات الحسية والعقلية وجعلها في المقام الثاني من بعد الوحي (المُدرَك التوقيفي) –إن جاز التعبير- هو من الأهمية بمكان في البناء المعرفي الأوليّ للطفل حتى ينمو وتنمو معه المنظومة العلمية متسقة على ما يريده الله تعالى، -كما سنوضح-
فالبرغم مما يبدو أن المشكلة بسيطة إلا أنها في غاية الخطورة فيما يترتب عليها لاحقًا من مشاكل عقدية ولعل من أهمها: تفضيل العلوم العقلية على النقل من القرآن والسنة وخلق شعور لا إرادي للطفل من أن العلوم اليقينية تقتصر فقط على ما قيل له داخل الفصل، والمعمل، وما عرفه عن طريق الحواس الخمسة والتجربة والمشاهدة...الخ، وأن علماء الغرب التجريبيين هم شهود الله في أرضه وما خلاهم ليسوا سوى "أقاصيص الحاكية" التي تسرد الحكايا في آخر اليوم في حصة مهملة تسمى حصة الدين.
وهذا التفكير السابق ليس سوى ملخص قصير لتفسير الفلسفة التجريبية الغربية التي لا تؤمن بوجود الإله، ولا تعترف بالوحي، وتلغي الجانب الغيبي من العلوم اليقينية والحقائق المعرفية فأي حقيقة خارج نطاق الحواس الخمسة والملاحظة ليست سوى زيف محض وكذب واختلاق وتلك هي أحد أهم العثرات التي يزل فيها الشباب وينجرف بها نحو الإلحاد.
و لعلي في النهاية ألفت الإنتباه ثانيةً في الفرق بين المنهج الإسلامي، والمنهج الغربي في معرفة الحقائق: فالمنهج الإسلامي لا ينكر العلوم التجريبية ولا الملاحظة ولا ينكر الحقائق المادية، كما يعترف بالحقائق العقلية بل إن الخطاب القرآني ثريّ بالحجج المنطقية التي تخاطب العقل وتجعله قيد المسؤولية، والعديد من الآيات تستحث المرء على استعمال عقله في كشف الحقائق والتدبر والتفكر وبذل اللّب في استخراجها.
لكنه في الوقت ذاته لا يجعل الحقيقة المادية هي الحقائق الوحيدة في استكشاف الكون كما أنه لا يضعها في المرتبة الأولى ضمن المنظومة المعرفية الإنسانية، بل الترتيب الصحيح أن نجعل الوحيين في المرتبة الأولى من تشكيل المنظومة، ثم تأتي الحقائق العقلية والمادية في المرتبة الثانية.
ومحال بعد ذلك أن نرى تعارضًا بين الحقائق التوقيفية، وبين خلق من مخلوقات الله تعالى لأن كل حقيقة في هذا الكون هي من خلقه وصنعه سبحانه وتعالى.
ونحن نؤمن بكمال صفاته سبحانه وتعالى ونؤمن بكمال علمه وكمال حكمته وكمال إبداعه وقدرته، وإذا ما رأينا تفاوت فهو من تقصير العقل لا النقل يقول تعالى {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ} [تبارك: 3].
والله تعالى أعلم.