الحرية بين مطرقة التنظير وسندان التنزيل
لم يعد أحد ينكر خطورة تمرير المفاهيم والمصطلحات بدون تحديد لماهيتها وتعاريفها، إذ كرست العديد من المراكز البحثية الغربية هذا المسار والمفارقة و أصبحت تطرح عدة مفاهيم بدون محددات، كما فعلت مع مفهوم (الإرهاب)، الذي سوقت له عبر منابر إعلامية، ومراكز بحثية، فكان نتيجة ذلك الملايين من الضحايا قتلاً وسجناً.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
لم يعد أحد ينكر خطورة تمرير المفاهيم والمصطلحات بدون تحديد لماهيتها وتعاريفها، إذ كرست العديد من المراكز البحثية الغربية هذا المسار والمفارقة وأصبحت تطرح عدة مفاهيم بدون محددات، كما فعلت مع مفهوم (الإرهاب)، الذي سوقت له عبر منابر إعلامية، ومراكز بحثية، فكان نتيجة ذلك الملايين من الضحايا قتلاً وسجناً، بدون جريرةٍ تذكر سوى رغبة الغرب في فرض نفوذه وقوته، وتصفية من ليس على هديه وطريقته في التفكير والتصور أو الخضوع والبقاء تحت وصايته، من أجل تحقيق مصالحه الوطنية والقومية، وهذه قاعدة عامة في سياساته مع غيره، وهي مدخلاً للتغيير في ثقافة وسياسة واقتصاد وقيم البلاد المستهدفة لتسهل السيطرة عليه وعلى ثرواته كما في البلاد الإسلامية.
و(الحرية)، من القضايا الأساسية التي كثُر عليها الحديث وعقدت من أجلها مؤتمرات وندوات وأسيل في سبيل تحريرها مداداً وسُودّت أوراقاً، والنتيجة اختلاف مفهومها من شخص لآخر ومن فلسفة إلى أخرى، وذلك لاختلاف منطلقات كل إنسان ومرجعيته، ما أدى إلى تقديم تعريفات متباينة بعضها غريب عن بعضها الآخر، ولهذا نجد فوضى من التعاريف التي تعطى للحرية، والكل يأخذ منها ما يشاء ويخدمه ويدع ما قد يسبب له معركة بين ما يبتغي الوصول إليه وبين نفسه، ومن المعلوم أن أي مجتمع لا يمكن له أن يتعايش مع الفوضى فبالأحرى أن يسمح بها لكنه يقبل بالتعاون والانسجام والاندماج للتفاهم، وهذه فرنسا العلمانية لا تفتأ تؤكد أنها ترفض الفوضى والانتهاكات والتجاوزات باسم الحرية خصوصاً حرية التعبير التي لا شيء منها على أرض الواقع غير الاسم.
لذلك تباينت كلمات مُنّظري الحرية واختلفت؛ فيرى (جون لوك)، أن الحرية هي: "القدرة والطاقة اللتان يوظفهما الإنسان لأجل القيام بعمل معين أوتركه".
ويعرفها (جونا ستيوارت ميل)، بأنها: "عبارة عن قدرة الإنسان على السعي وراء مصلحته التي يراها، بحسب منظوره، شريطة أن لا تكون مفضية إلى إضرار الآخرين".
بينما يكتب كانط: "الحرية عبارة عن استقلال الإنسان عن أي شئ إلا عن القانون الأخلاقي"، فهذه بعض التعريفات للحرية تجدها مدرجة بجملة من القيود والضوابط رغم أن التعريفات التي طرحت للحرية قد بلغت حتى الآن المئتي تعريف كما يقول ايزابرلين.
فمن المضحك حقاً ما احترفه ونبغ فيه العلمانيون من البكاء على الحرية المفقودة!! والتضجر من بعض القيود التي يدعون وجودها على الجهر بآرائهم سواء أكانت قيوداً فلسفية فكرية أو اجتماعية أو قانونية أو دينية؛ فلا يتورعون عن الادعاء بوجود اضطهاد فكري ونفسي من فئات المجتمع المختلفة، الذين ينادون ويكثرون الصراخ بضرورة تنزيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مختلف منابرهم ومجالسهم -وما أكثرها- زعماً منهم أنها المثل الأعلى الذي يجب أن ترجع إليه جميع الشعوب والأمم فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ومنها الحرية التي أصبح لها حداً خاصاً لبني علمان ومن جاراهم لتمرير مشروعهم الفكري، وإقصاء من يخالفهم الرأي والكفر بمبدأ الرأي والرأي الآخر وحرية التعبير.
فنجد أن العلمانيون باسم الحرية شوهوا صورة الإسلام بتأويلاتهم الفاسدة وسخريتهم برموز الإسلام من العلماء والدعاة واستهزائهم بمقدساته؛ فهذا رأس كبير القوم محمد أركون يقول في كتابه (قضايا في نقد العقل الديني): "لا نريد أن نحمي بأي ثمن تلك القيم أو العقائد الموروثة عن الماضي كما يفعل بعض المحافظين الذين يحنون رجعياً إلى الوراء، لا نريد أن نحمي من سلاح النقد تراثاً قدسته الأزمنة المتطاولة، كما ولا نريد أن نحمي الهوية الدينية أو القومية ونضعها بمنأى عن كل تفحص نقدي".
وهذا صادق جلال العظم يقول في كتابه (نقد الفكر الديني): "المعتقدات الدينية كالإيمان بالقضاء والقدر والثواب والعقاب والإيمان بعدل الله فيها تناقضات عقلية صريحة لا يسعنا إلا رفضها"، وإذا كان الله جل جلاله وتقدست أسماؤه معبود المسلمين ومدار وجودهم، فإن شيخ العلمانيين حسن حنفي يطلق عريضة للاستهزاء بلفظ الجلالة، كما سطر ذلك في (التراث والتجديد)، بل إن الإسلام كله لم يكن سوى نسخة معدلة من شتات الأديان والعقائد السابقة؛ فحسب عزيز العظمة في كتابه (التراث بين السلطان والتاريخ): "الواقع التاريخي أن الإسلام لو يولد جاهزاً، بل الأصح أن أكثر عناصره تسربت إليه، وطوعت معاني القران، وعملت على تشكل الحديث بموجب الأوضاع السائدة في الشام والجزيرة والعراق وفارس وخراسان".
ويقول محمود إسماعيل في كما في مجموع (العلمانية مفاهيم ملتبسة): "بل إن الإسلام نفسه اعتمد الكثير من التقاليد والنظم الجاهلية في صياغة شريعته".
لقد قامت العلمانية من أول يوم على محاربة الدين وعدم التحاكم إليه وعلى الخضوع لغير الله، وبمفهوم الحرية الغامض عندهم كانت لهم الجرأة في فعل وقول ما شاؤوا وأرادوا، متجاوزين ومتناسين تلك الحدود والقيود التي وضعها المنظرون بله الأديان والعقائد دون احترام حرية المجتمعات الإسلامية باتخاذها الله رباً والإسلام دينًا ومحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، مستخرجين كل معاول الهدم لكل المقدسات الإسلامية التي رضيتها الشعوب المسلمة في تعد صارخ لقيد الحرية في عدم المساس بحرية الآخرين.
فالحرية لا يمكن أن تؤتي ثمارها الحقيقية إلا في ظل الممارسة الصحيحة لها بما لا يتعارض مع الدين أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم، ولطالما كان للعلمانيين سبق الترويج لمقولة: "حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين"، فلا تعني حرية الرأي أبداً ما يذهب إليه بعض الصحفيين اليوم من الاستهزاء والهجوم على العقيدة الإسلامية بحجة تحرير الفكر من الجمود أو الخرافة أو الطغيان، وليس للصحفي والكاتب أن يفهم الحرية بإن يقول ما يقول، فالحرية تمارس ولكن في إطار النظام العام وميزان الشريعة.