هذه النافذة، هل أطللت منها؟
هذه الحادثة الحقيقية واحدة من خوالد الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي التي أوردها في كتابه الشهير (وحي القلم)، وليس لي إلا شرف صيدها وتقديمها إليك عزيزي القارئ، ثم التعقيب عليها. أما الأحداث فهي كما أخذها الرافعي بطريقته المدهشة، من تاريخ الرجل أيام الدولة الطولونية في مصر، لعل الشباب يتلقون القيمة الكبرى، واللغة الناصعة عن شيخ العربية، هذا الصادق الرافعي.
هذه الحادثة الحقيقية واحدة من خوالد الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي التي أوردها في كتابه الشهير (وحي القلم)، وليس لي إلا شرف صيدها وتقديمها إليك عزيزي القارئ، ثم التعقيب عليها. أما الأحداث فهي كما أخذها الرافعي بطريقته المدهشة، من تاريخ الرجل أيام الدولة الطولونية في مصر، لعل الشباب يتلقون القيمة الكبرى، واللغة الناصعة عن شيخ العربية، هذا الصادق الرافعي.
لاتزال ذاكرة التاريخ عامرة بذلك الخبر الذي استفاض في الناس، حتى جاوز مصر، فأرهفت له العواصم أسماعها على امتداد الأرض الإسلامية، ذلك الخبر، هو الحادثة التي وقعت لشيخ الديار المصرية أبي الحسن بنان الحمال الزاهد الواسطي (توفي عام316هـ)، وكان الطرف الآخر للحادثة، حاكم مصر المشهور أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية، وربما كان مناسبًا -ونحن في حضرة الأنابيش- أن أجعل القارئ الكريم يلتقي بالرجل الذي "نبش" عن الخبر، خبر بنان، وحققه، ثم أودعه قلوب الناس في مصر وذاكرة التاريخ، وأسماع العواصم.
بطل الحادثة هو الشيخ أبوعلي أحمد بن محمد الروزابادي البغدادي (توفي عام 322هـ) وهو تلميذ ومريد لشيخ الديار المصرية بنان الحمال تتلمذ عليه زمنًا، ثم خلفه بعد وفاته في مجلسه ووعظه ودرسه.
قال أبوعلي: هوت نفسي إلى مصر، لأرى أبا الحسن بنان الحمال، وآخذ عنه، لأحقق ما سمعت من خبره مع ابن طولون فلما لقيته، لقيت رجلاً يتلألأ فيه نوره، ويعمل فيه سره، وعلامة الرجل من هؤلاء، أن يعمل وجوده فيمن حوله، أكثر مما يعمل هو بنفسه، كأن بين أرواح الناس وبينه نسباً شابكًا، فله في الناس معنى أبوة الأب في أبنائه، لا يراه منهم أحد، إلا أحس أنه شخصه الأكبر، فهذا هو الذي تكون به التكملة الإنسانية للناس، وكأن الله سبحانه قد أتاحه لمن حوله، لإثبات أن غير المستطاع مستطاع.
قال أبوعلي: وهممت مرة، أن أسأل الشيخ عن خبره مع ابن طولون، فقطعتني هيبته، ورأيت من كراماته التي يمنحها الله لعباده الصالحين ما صرفني عن سؤالي، فكنت كأني أرى بعيني رأسي كل ما سمعت.. غير أني لم أنصرف، حتى لقيت أبا جعفر القاضي أحمد بن عبدالله بن مسلم ابن قتيبة (توفي عام 322هـ)، فقال لي: لعلك اشتفيت من خبر بنان مع أحمد بن طولون، فمن أجله زعمت جئت من وراء الأبعاد، فقلت: إنه تواضع فلم يخبرني، وتهيبته فلم أساله.. فقال أبوجعفر: تعال أحدثك الحديث!!
ثم ذكر ابن قتيبة للروزبادي، أطرافًا من طبائع أحمد ابن طولون وأخباره، ظهر فيها هذا الحاكم على جانبي التناقض بشخصيته العجيبة، وكيف كان له عقل كأنه عقلان في رجلين مختلفين، فله يد مع الملائكة ضارعة، ويد مع الشياطين ضاربة، فهذا الرجل ينفق الأموال الطائلة على الفقراء والعلماء، ويكثر من قراءة القرآن والاعتكاف، وهو مع ذلك رجل طائش السيف، يحمل الناس على الجور والعسف، حتى بلغ عدد من قتلهم أو ماتوا في سجنه، ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون.
قال ابن قتيبة وهو يكمل الخبر للروزبادي تلميذ شيخنا بنان:
ولما ذهب شيخك أبوالحسن بنان إلى ابن طولون يعظه، وينهاه عن هذه النكراء، طاش عقل الحاكم، فأمر من توه بإلقاء الشيخ إلى الأسد، وهذا هو الخبر الذي جاء بك من بغداد، وطار في كل الدنيا!!
قال ابن قتيبة: وكنت حاضر أمرهم ذلك اليوم، فجيء بأحد الأسود من قصر خمارويه ابن هذا الحاكم الطائش، وكان الأسد الذي اختاروه أغلظ ما في أقفاص الأمير الذي كان يهوى صيد الأسود واقتناءها.. الأسد كان جسيمًا رهيبًا، هراسًا فراسًا، يتلهب في عينه الدم وفي هيئته الفزع، أهرت الشدق (واسع الفم) كأن فمه كهف ينبئ أن وراءه مقبرة، فإذا واجهك أحسست أنه لفرط وحشيته، يوشك أن ينقذف على من يراه، فيحيله في لحظة، بقايا قصة حزينة!
وأجلسوا الشيخ في قاعة، وراحوا يشرفون عليها من عل لينظروا.
فتح باب القفص من أعلاه، وزجروا الأسد، فانطلق يزأر زئيرًا يوشك أن تنخلع له جدران القاعة، كأنه الرعد، ليس وراءه إلا الصاعقة، فتجمع الأسد في نفسه واقشعر، فأدركنا أنه ما بقي من عمر الشيخ إلا طرفة عين، والشيخ مع ذلك ساكن لا يطرف، مطرق لا ينظر إلى الأسد، وما من الحاضرين إلا من كاد ينهتك حجاب قلبه من الرعب والإشفاق على الشيخ بنان.. ولم يرعنا إلا صمت الأسد وسكونه، كأنما ذهل فجأة عن وحشيته.. فأقعى الأسد على ذنبه، ثم لصق بالأرض يفرض ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى فمشى مترفعًا ثقيل الخطو تسمع لمفاصله قعقعة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ هادئًا، وراح يحتك به ويشمه، كما يصنع الكلب الأليف مع صاحبه.. وكأن الأسد يعلن بهذا السلوك العجيب، أن ما نراه سوف لا يكون مصارعة بين هذا التقي والأسد، وإنما يصبح مبارزة بين إرادة الله، وإرادة ابن طولون!
وكأنما ضربت الأسد روح الشيخ، فلم يصبح بينه وبينه عمل، وكأنما الأسد الذي جوعوه لهذه المهمات، لم يعد بإزاء لحم ودم يفجر فيه غريزة الافتراس.. وكأن الشيخ في صمته وروحانيته، لا يحس لصورة الأسد معنى من معاني الفتك، ولا يرى فيه إلا قوة مسخرة للقوة العظمى التي علق أسبابه بأسبابها، وتوكل عليها، توكل النملة وما دونها على خالقها ومدبر أمرها!
فصار الشيخ يرى أنه ليس بين يدي الأسد، وفكه، بل هو والأسد بين يدى هذه القوة العالية، وكأني به، راح يتدثر بيقين قوله سبحانه: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]. وكأن الأسد رأى رجلاً هو خوف الله، فخاف منه.. فكما خرج الرجل من ذاته ومعانيه الناقصة الضعيفة، خرج الوحش من ذاته ومعانيه الوحشية الضارية، فليس في الرجل خوف ولا جزع ولا تعلق، وليس في الأسد فتك ولا فرس ولا سبع.. ولو أن خطرة من خطرات الدنيا مرت على قلب الشيخ في تلك الساعة، أو اختلجت في نفسه خالجة من خوالج الشك، لفاحت رائحة لحمه في خياشيم الأسد، فتمزق في أنيابه ومخالبه!
قال ابن قتيبة مكملاً الخبر للروزبادي تلميذ هذا الشيخ التقي: وانصرفنا عن النظر في السبع، إلى النظر في الشيخ.. فإذا هو مطرق مفكر.. ثم رفعوه، وجعل كل منا يظن ظنه.. فيم كان يفكر الشيخ؟ فمن قائل: إن الخوف قد أذهله عن نفسه ففقد الحس فسكن، وقائل: إن الشيخ انصرف بعقله إلى الموت،.. وثالث: إنه قمع فكره، ليمنع الحركة عن جسده فلا يضطرب.. وآخر: إنه دخل في حالة من الاستغراق يسحر بها الأسد، وذهبت الناس في تفسير الأمر قدرما أسعف كلا ظنه.. حتى سأله ابن طولون: فيم كنت تفكر؟.. فأجاب الشيخ: لم يكن علي بأس.. وإنما كنت أفكر في لعاب الأسد.. أطاهر هو أم نجس؟!
عزيزي القارئ.. انتهى إلى هنا خبر الشيخ الورع بنان الحمال مع ابن طولون والأسد، ولكنه لم ينته معنا بعد، ولا أحسبه سينتهي.. فإن الخبر سيقع على عقول طائفة منا، فيحملونه على ما حملت عليه أساطير الأولين أو قصص الوعاظ في أحسن الفروض.. وسيقع في يقين آخرين، وقوع {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 -70]. وسوف يظل اليقين في ذات الله والاطمئنان إليه، فاعلاً في صاحبه قبل إبراهيم وبعد بنان، نفس ما فعله مع أبي الأنبياء، وما فعله مع أبي الحسن، وهو فاعل ذلك أيضًا مع أصحاب الروبوت والساتلايت والإنترنت، إذا انطوت صدورهم على مثل هذا القدر من اليقين في ذات الله، مهما ضرب الإنسان في أجواز الفضاء، أو في أعماق البحر، أو في أغوار البدائية، فإن الآية من آيات الله الأعظم، تتجلى لخلقه، فتحدث فعلاً مزدوجاً، فهي تعيد بعضنا إلى سواء الفطرة التي فطر الله خلقه عليها، وتلفته بقوة، إلى الرسالة التي حملتها هذه الآية أو الحادثة، وهي نفسها لا تزيد بعضنا من الظالمين والمتجبرين إلا غرورًا، والآية هي هي، لم تتغير، ولكن الله سبحانه ييسر بعض الناس لليسرى كما ييسر بعض الناس للعسرى!!
والبلد الذي يخلو من رجل أو رجال من أهل الدين الصحيح الذي يجعلهم موصولين بنبع العناية الإلهية يكون في جهله كالبلد الذي يخلو من جميع الكتب، وإن كان جميع أهله من المختصين في شتى العلوم، وإن جعلوا في كل شارع جامعة، وفي كل دار خزانة كتبًا، فالكتب لا تغني عن الرجال، إذ هي مجرد صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل، ولكن الرجل من أهل الدين الصحيح والسلوك النظيف هو صواب ينتهي إلى الروح، وهو في تأثيره على الناس، أقوى من العلم، وما مثل الكتاب يتعلم فيه حقائق الأخلاق العلمية، إلا كمثل الإنسان يضع يده تحت إبطه يحاول أن يرتفع بجسمه عن الأرض، فهو يكدح لكنه لا يرتفع، ومن هنا كان شر الناس على الأمم هم علماؤها ومعلموها، إذا لم تكن أخلاقهم دروساً أخرى، تعمل عملا غير الكلام.
إن سر الأسرار في الأمر كله -عزيزي القارئ- هو خلوص القلب والوجه لله، ثم المشي في مناكب الأرض على شروطه، وأنت مفعم باليقين فيه والخلوص إليه، تلك هي حقيقة العصا التي كانت في يد موسى صلوات الله عليه:
كانت عزلاءَ
عادية
إلا من إصبع موسى العلوية
وشفاه تقتات الإخلاص.. سماوية
كن موسى.. تملك مثل عصاه
تقهر فرعون وتتحداه
تمشي في الأرض بقدر الله
تصبح أغصان الأرض
عصا موسى!
سعيد شوارب
- التصنيف: