ويبقى العلمي عقلاً وضميراً

منذ 2014-09-21

لا تهمه الأضواء، ولا تغريه هالات الشهرة، ولا كاميرات الإعلام، ولا ينافس للظهور، ولا يسابق إلى اللقاءات، ولا يعاتب إن غابت صورته، أو تأخر خبره، أو طوى الإعلام ذكره، ولا يسبق للجلوس في الصفوف الأولى، ولا يسبقه إليها من يهيئ له المكان، ويحجز له المقعد، بل لا يهمه إن تأخر مقعده، أو لم يعرف الناس منزلته، ولم يجلسوه في المكان الذي يليق بمكانته، ويناسب قدره.

قلةٌ قليلةٌ هي التي عرفت بإصابة عضو المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) المهندس (عماد العلمي)، خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، رغم أنه أصيب في الأيام الأولى للعدوان، لكن إصابته بقيت سرية، ولم يكشف النقاب عنها، مما جعلها في نطاقٍ ضيق، حُصرت في أهله وخاصة الحركة من القيادة السياسية والأمنية، فما عرفها إلا القليل، رغم أن الكثير قد افتقد غيابه عن حوار القاهرة الأول، الذي سُمي فيه إلى جانب خليل الحية مفاوضاً عن حركة حماس، حيث وصل الأخير إلى القاهرة وحده، ولم يكن معه العلمي، لكن أحداً لم يشك في أسباب غيابه، ولم يفسره أحدٌ باحتمال تعرضه لحادثٍ خلال العدوان.

بصمتٍ أُصيبَ، وتحت وابلِ القصف غادر مكانه الخطر، ودونَ جلبةٍ ولا فوضى بقي في غزة الجريحة يتلقى العلاج، عله فيها يشفى من إصابته، رغم صعوبة الظروف وقسوة الأوضاع، وندرة الدواء وقلة الحيلة، وضيق ذات اليد طبياً، إلا أن حالته تدهورت، وجرحه ساء، إذ أُكتفي بعلاجه في ملاذه تحت القصف، الذي يفتقر إلى كل شيء من سبل العلاج وأدوات الجراحة، فضلاً عن عدم قدرة وصول الأطباء والمسعفين إليه.

بصمتٍ أكبر انتقل إلى تركيا لمواصلة العلاج، فلم تواكبه فرقة، ولم تتبعه جوقة، ولم تنقل وسائل الإعلام صوره، ولم تتناقل الصحفُ أخباره، بل آنسته في رحلته زوجته وولده، فكانا معه وإلى جنبه، خير رفيقين، وأصدق محبين، صامتين مثله، هادئين لا يضطربان، مطمئنين لا يضجان، وراضين بقضاء الله ولا يعترضان.

أما هو فقد استقبل قضاء الله راضياً سعيداً، شاكراً حامداً، تغمره السعادة، وتسكنه الطمأنينة، ويملأ قلبه الرضا، فقد أصابه ما أصاب شعبه، وحل به بعض مما عانى أهله، فلم يختلف عنهم ولم يتميز، بل نال وسامَ الشرف، وطوق عنه اكليل الفخر، وسبقته إلى الجنة قدمه، التي سيخطر بها يوم القيامة بين يدي الله مفاخراً، وسيدخل بها جنة الخلد راضياً، وسيلتقي بجده رسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وسيكون معه صاحباً ورفيقاً، فهو حفيده، ومن نسل الدوحة النبوية الشريفة، فهنيئاً لعماد ما قدم، وسَعِد بما سبق به وأعطى.

إنها طبيعة عماد، وجِبلته التي عرف بها، وطبعه الذي اشتهر به، فهو صامتٌ لا يتحدث إلا قليلاً، ولكنه إن تحدث فالدرُ كلامه، والفيصل حكمه، والحكمة قوله، كلماته معدودة، يعدها السامعون، ويحفظها المتلقون، وصوته خافتٌ لا يكاد يدركه المحيطون، لكنه عميق الفكرة، صائب الرأي، صادق القول، جادُ المسعى، حاسم الحكم، لا يرائي فيه ولا يداهن، ولا ينافق ولا يساوم، ولا يقوله رضىً لفريقٍ أو حرصاً على مكانة، بل يقول كلمته بحقٍ ولو أغضبت، ويصدرها كطلقةٍ ولو أصابت، ويقطع بها كسيفٍ ولو أوجعت.

منظمٌ هو ومنسقٌ، لا يضطرب عقله، ولا يختل تفكيره، ولا تتداخل أفكاره، ولا تتناقض اجتهاداته، ولا ترتبك شواهده، ولا تنعدم دلائله، ولا تغيب عنه الفكرة، ولا يضل السبيل إليها، بل تتسلسل في منطق، وتجري تباعاً كسلسلة، يأخذ بعضها برقاب الأخرى حكماً، وتتابع في سهولةٍ ويسر، كماءٍ ينحدر، ينساب بهدوءٍ ولا يتوقف، فلا تفقدها الأحداث حكمتها، ولا تحرفها القذائف وقوة الانفجارات عن مسارها، ولا تغير قناعاته الضغوط وقسوة الظروف، وتوالي الأحداث وتتابع الغارات.

لا تهمه الأضواء، ولا تغريه هالات الشهرة، ولا كاميرات الإعلام، ولا ينافس للظهور، ولا يسابق إلى اللقاءات، ولا يعاتب إن غابت صورته، أو تأخر خبره، أو طوى الإعلام ذكره، ولا يسبق للجلوس في الصفوف الأولى، ولا يسبقه إليها من يهيئ له المكان، ويحجز له المقعد، بل لا يهمه إن تأخر مقعده، أو لم يعرف الناس منزلته، ولم يجلسوه في المكان الذي يليق بمكانته، ويناسب قدره.

فهو رجلٌ قد أغناه الله وطهره، واصطفاه وباركه، وأيَّده بفضله، وعن المفاسد نزهه، فلا يلتفت للمؤيدين، ولا يعنيه المصفقون، ولا يرضيه المداهنون والمنافقون، ولا يسعده المدح، ولا يبطره الغنى، ولا تفسده المظاهر، ولا يسعى لمالٍ يغني، ولا لنفوذٍ يغوي، ولا لسلطةٍ تطغي، ولا تحرك الرغبة في نفسه الأهواء والمطامع، ولا يسكت لسانه مكانة، ولا يطلقه بالمدح والثناء توقٌ إلى منصب، أو حرصٌ على مصلحةٍ، أو سعياً لحاجة.

إنه عمادٌ الذي عرفته في السجن، وسكنت معه في زنزانةٍ ضيقة، ورافقته في الإبعاد، وعشتُ معه وقريباً منه ردحاً من العمر، فعرفته لا يغضب لنفسه، ولا يُستفز لذاته، ولا يسعى لمصالحه، ولا يقاتل من أجل مكاسبه، ولا ينافس لرفعةٍ، ولا يعاند نكايةً، ولا يظلم نقمةً، ولا يتآمر انتقاماً، ولا يحالف خبثاً، ولا يصادق جبناً، ولا يسكت عن خطأ، ولا يرضى عن انحراف، ولا يقبل بزيفٍ أو ضلال.

سيعود عماد إلى غزة العزة ماشياً على قدميه، مرفوع الرأس، منتصب القامة، شامخ الإرادة، موفور الكرامة، عالي الصوت، صادق الرأي، واثق الوعد، راضي القضاء، ولن تقعده الإصابة، ولن يمنعه عن مواصلة المسيرة ما أصابه، بل سيكون أحد مما مضى، وأكثر صدقاً مما سبق، وأوفى مما كان، وأكثر عطاءً مما عرف عنه، وسيتحدى بقوةٍ، وسيواجه بعزم، وسيتصدى بوعي، وسيبقى عقله اليقظ، وفكره النير، وكلماته الصادقة، وحرصه الأمين، يحمي الحركة، ويدافع عن المقاومة، ويتصدى للخطأ، ويواجه الانحراف، ويقف في وجه مساعي التيه ومزالق الضياع، رافعاً صوته كسيف، لا يخاف ولا يتردد، وضميراً يقظاً لا ينام، وعقلاً نيراً لا ينحرف، فالوطن عنده أسمى، والمقاومة أغلى، والشعب أهله، والجنة مبتغاه، والله ربه، هو حسبه، وهو شافيه ومعافيه، وحافظه وراعيه، فالله خيرٌ حافظاً، وهو أرحمُ الراحمين. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مصطفى يوسف اللداوي

كاتب و باحث فلسطيني

  • 5
  • 3
  • 2,354

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً