بلغ ربي مني التحية!
ولئن حُرم العبد في هذه الأيام المباركة أعظم أعمالها -وهو حج بيت الله الحرام- فليس أقل من أن ينافس الحجيج والعمَّار في نفسياتهم المتوقدة وإقبالهم الجميل، إقبال يرفعون فيه شعار: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
- "بلغ ربي مني التحية وقل له أني قد مِتُّ مشتاقًا إلى بيته".
كانت تلك الكلمات هي آخر ما سمعه الحاج عثمان قبل أن ينطق صديق عمره الشهادتين، ثم يسلم الروح بين يديه على ظهر تلك السفينة في عرض البحر، الحاج عثمان لمن لا يعرفه هو رجل بسيط من أواسط أفريقيا –تحديدًا من زامبيا- كان قد قرر هو وخمسة من إخوانه في منتصف القرن الميلادي العشرين أن يحجوا بيت الله ويجاوروا في رحابه مشتاقين إلى حرمه المقدس..
لم يثنهم عن تلك النية كسل، ولم يخفف ذلك الاشتياق طول مسافة أو قلة ذات يد، ولا حتى مخاطر طريق..
- نحن في ريعان شبابنا وفي ذروة عنفواننا، فإن لم نخرج الآن لتلك الرحلة فمتى؟!
- أوبعد أن يهن العظم ويضعف البدن ويخور العزم؟!
- لا والله بل نخرج الآن ونعقد العزم ونبتغي من الله العون، ونستعين به على قلة الزاد ووعثاء السفر، والظن فيه جميل وهو الرزاق ذو القوة المتين..
هكذا دار الحوار بين الأصدقاء الأفارقة الذين خالط الشوق قلوبهم، وهوت إلى بيت الله المحرم أفئدتهم، وهكذا اتخذوا القرار.. سيحجون سيرًا على أقدامهم، وسيستعينون بالله ربهم في رحلتهم الطويلة، من مجاهل وأحراش أفريقيا الخمسينات إلى أرض الحجاز، ومهبط الوحي ومهد الرسالة، لن تكون الرحلة سهلة، ولن يكون الزاد ميسورًا..
سيضطرون للوقوف في القرى والمدن التي يمرون بها بين الفيافي، والجبال والغابات والمستنقعات، وسيلجأون إلى كل قرية أياما ولربما شهورًا ليَجِدُّوا السعي، ويكدوا ويكدحوا لتحصيل زاد السفر ومؤونة الرحلة، حتى ينفد زادهم فيقفوا من جديد عاملين وكادحين، بربهم مستعينين..
طالت الرحلة ليالي وأيامًا، ساروا فيها عازمين وبمخاطر السفر غير آبهين، سقط منهم عبر شهور سيرهم الواحد تلو الآخر، هذا بلدغة حية، وذاك بضربة شمس، وثالث بملاريا..!
ثم لم يتبق إلا الحاج عثمان وصديقه!
ها هما على متن عبَّارة تمخر بهم عباب ما سموه حينئذ بـ(بحر جدة).
وها هي جدة تلوح في الأفق، لكن يبدو أن صديق الحاج عثمان لن يتمكن من الصمود أكثر من ذلك..
ها هو يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد رحلة دامت عامين ونيف، كان الشوق فيها حاديه والحب قائده، والاسترضاء بغيته ومنتهى أمله..
خرجت منه تلك الكلمات على بساطتها تحمل كثيرًا من عميق المعاني وصادق المباني..
بلغ ربي مني التحية وقل له أني قد مت مشتاقًا إلى بيته، زفرة محب وتنهيدة مشتاق صادق، دلل على صدق حروفها بعمله وسعيه، وها هو يجود في نهاية رحلتها بنفسه غير نادم، ولا مستكثر لعمله..
إنها تلبية عملية لنداء إبراهيم عليه السلام، ذلك النداء الذي لم يخفت سطوعه رغم مرور القرون: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، تلبية بالجوارح والأفعال، وبالنفوس والأموال تصنع مشهدًا مهيبًا على ظهر ذلك المركب، بعد تلك الرحلة الطويلة والشاقة، التي لم يبلغ نهايتها إلا عثمان!
عاش الحاج عثمان طويلاً بعد ذلك المشهد المهيب الذي أسلم فيه صديق عمره روحه بين يديه..
مكث الحاج عثمان مجاورًا بيت الله الحرام عقودًا، روى فيها قصة أصحابه الذين هوت أفئدتهم للبيت وتاقت أنفسهم الشابة إلى تلبية نداء ربهم، فلبوا بأرواحهم قبل ألسنهم..
تلك القصة ومثيلاها كثير لرجال ونساء، هوت أفئدتهم إلى البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، رجال ونساء لبوا النداء وتعلقت قلوبهم بالسماء فلم يبخلوا بغالٍ ولا نفيس ليبلغوه من كل فج عميق.
ولئن حُرم العبد في هذه الأيام المباركة أعظم أعمالها -وهو حج بيت الله الحرام- فليس أقل من أن ينافس الحجيج والعمَّار في نفسياتهم المتوقدة وإقبالهم الجميل، إقبال يرفعون فيه شعار: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، "لبيك إله الحق لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل"
"لبيك حقًا حقًا تعبدًا ورِقَّا لبيك مرهوبًا ومرغوبًا إليك" لبيك..
ألا فليلبِ الماكث بقلبه وليرفع شعار الكليم عليه السلام، وإن كان في قعر بيته قائلاً لمولاه في أحب أيامه إليه: {...وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:48].
- التصنيف: