{وَجَعَلَ منْهَا زَوْجَهَا ليَسْكنَ إليْهَا}
أوليس من العجب أن يجعل الله العلاقة بين الزوجين اللذين كانا يوماً غريبين، عن بعضهما أجنبيين، أوثق وأقرب وأعمق من علاقة الوليد بأمه؟! لكن ما بال سائر الأزواج زاهدين غير مبالين؟ ولماذا يجعلون الزواج عادة وتقليداً، ولا يجعلونه إلفة وسكناً؟
- التصنيفات: فقه الزواج والطلاق - قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -
قال تعالى: {هُوَ الذي خَلقَكم من نَفْسٍ وَاحدَة وَجَعَلَ منْهَا زَوْجَهَا ليَسْكنَ إليْهَا} [الأعراف:189]. وقال جمهور المفسرين: "المراد بالنفس الواحدة آدم، وبزوجها: حواء" (الجامع لأحكام القرآن م7 ص337).
وقال ابن عباس: "لما أُسْكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشاً، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصري من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها؛ فلما انتبه رآها فقال: من أنت؟! قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي" (الجامع لأحكام القرآن م1 ص301).
وهذه المسألة: الله الحكيم العليم لما أراد أن يزيل الوحشة عن آدم في الجنة، ويجعل له نفساً يسكن إليها ويسعد بصحبتها لم يخلق له أخاً ولا أباً ولا ابناً، أي لم يوجد له مخلوقاً ذكراً من جنسه ليأنس به إنما خلق له أنثى، وما جعل الله هذه الأنثى أماً ولا أختاً ولا بنتاً إنما جعلها زوجة، وخلقها من ضلع آدم لتكون هي جزءاً منه وليكون هو جزءاً منها.
فماذا أراد الله بهذا؟
إن الله سبحانه أراد أن يبين للناس أن الزوجة شيء مهم جداً في حياة الرجل، بل لعلها أهم شيء، وتأتي أهميتها من أنها سكن، والسكن من ضرورات الحياة الدنيا الأساسية، والله جعل للمرأة وظائف أساسية متنوعة، وكان أولها وأهمها أن تكون سكناً للرجل، والسكن كما بين القرآن لا تأتي به إلا الزوجة، فهي التي تزيل وحشة الرجل وتخفف عنه همه، وتحمل معه أعباء الحياة؛ يأتي إليها الزوج بعد يوم عمل طويل ليأنس بها ويسعد بصحبتها، ويركن إلى مسامرتها، فينسى همومه ومشكلاته.
ولعل هذا مشاهد وملاحظ في حياتنا اليومية؛ فالرجل لا يستطيع أن يعيش دون المرأة ودون (السكن) الذي توفره له، فهو يسارع إلى الزواج، بل إنه قد يعدد الزوجات، في حين تعيش المرأة دون الرجل إما عانساً وإما مطلقة أو أرملة، فتتغلب على مشكلاتها، وتعوض نفسها عن فقدها الرجل، وتملأ حياتها بأي نشاط.
وقد أثبتت الدراسات أن المتزوجين يتصفون عادة بالاتزان العقلي والخلقي، وحياتهم هادئة قلما يشوبها الاكتئاب أو السوداوية، وقلما يفكرون بالانتحار!
فالزواج إذًا ليس إبقاء للنسل فقط، ولكن فيه ما هو روحي -المودة-، وفيه ما هو مادي -الخدمة والطعام-، وفيه ما هو تعبدي -الاستغناء بالحلال عن الحرام- وفيه (البنين) زينة الحياة الدنيا، وكل هذا مجتمعاً يوفر (السكن) للرجل ويشبع حاجته إليه.
والذكي والحكيم من الأزواج من يجعل من امرأته (سكناً) حقيقياً فيتخذها صديقة مخلصة وفية، وقد كانت خديجة رضي الله عنها خير صديق وأفضل سكن، وقصتها مع النبي يوم نزل جبريل أشهر من أن تروى، ووقوفها إلى جانبه حتى ماتت رضي الله عنها أشهر من أن تذكر.
ونابت عنها -فيما بعد- أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وإن لم تبلغ مكانتها- حتى أن النبي لما سئل عن أحب الناس إليه قال على الفور: "عائشة". وقد كان جوابه مفاجأة للسائل الذي توقع أن يكون المحبوب رجلاً لا امرأة، وكان عليه السلام يسكن إلى أزواجه فيحدثنه ويحدثهن، ويسألنه ويناقشنه فيباسطهن ويلاطفهن، ويعاتبنه وتهجره إحداهن إلى الليل فيسامحها ويتجاوز عنها.
أوليس من العجب أن يجعل الله العلاقة بين الزوجين اللذين كانا يوماً غريبين، عن بعضهما أجنبيين، أوثق وأقرب وأعمق من علاقة الوليد بأمه؟! لكن ما بال سائر الأزواج زاهدين غير مبالين؟ ولماذا يجعلون الزواج عادة وتقليداً، ولا يجعلونه إلفة وسكناً؟
عابدة العظم