اللفتة الأولى: في اليسر والتحقق أو المشقة والمخاطرة
أبو محمد بن عبد الله
إن الذي يتبع الله سبحانه، فإن الله {يهدي للحق}، فهو قريب منه، يسير عليه، متحقق له ما أراد من هداية خلقه إليه لا محاله، ولذلك فاتَّبع الله تجد ذلك كذلك. أما الذين يتبعون الشركاء فإنهم بصيبهم الشقاء والبلاء، ولا يلون إلى ما يريدون، ولا يهتدون سبيلا، لأن الشركاء أصلا لا أحدَ منهم {يهدي للحق}، وإنما يزعم أو يحاول أو يدَّعي أنه لآيهدي إلى الحق}... فالشركاء المخلوقون فاجتمع في فعلهم وإرادتهم العسر بدل اليسر، والمخاطرة...فاختر طريقك وتحمَّل مسؤوليتك.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - الدعوة إلى الله -
اللطيفة السادسة: في اليسر والتحقق أو المشقة والمخاطرة
ما زلنا في ظلال {يَهدِّي}، ولطائفها، ولفتاتها، وها هنا أربع لفتات تُسْتَشفُّ من تلك اللطائف، كلها مستفادة مما سبق من معاني الحرفين :{إلـــى الحق} و {لــــلحق}: فحيث إن {الله يهدي لـــلحق} بينما الشركاء المخلوقون، يحاولون أو يزعمون أنهم "يهدون إلــى الحق!".
فهل ذلك متحقق لهم متيسِّر، وهل يَبْلُغون قصدهم إن أرادوا ذلك؟
ثم هل يحسن قصدُهم في طلب الحق والدعوة إليه أصلاً؟
ثم هل يسلكون السبيل الصحيح لهذا الغرض النبيل؟!
وهــاؤم - فضلا- فالْتَفِتُوا إليها:
لفتة أولى في : اليسر والتحقق أو المشقة والمخاطرة.
من مجموع ما سبق ومن معاني الحرفين نقول: إن التعدية بالحرف " إلـى" في "يهدي إلــــــــى الحق"، تفيد الانتقال من مكان إلى مكان، وتقتضي سلوك طريقٍ؛ له بداية وله نهاية، ويقتضي أن بين طرفيه مسافةً وبُعدًا، تتطلب طريقاً، وتتطلب مشقة وجُهدًا، وقد يبلغ السالك غايته، وقد يعجز عن ذلك فلا يبلغ.
ففي حق الشركاء استعمل الله التعدية بحرف الجر " إلــــــــى" فقال: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ؟!}؛ فالشركاء أمام هذا الــ " إلــــــى"! والاهتداء مِن ورائه هناك؛ فقد يقدرون وقد يعجزون، ويقد يُضنيهم التَّعبُ ويمسّهم اللغوب، وقد تَبْعُدُ عليهم الشُّقَّةُ، وقد يعجزون بالكلية، حين يخرج الأمر عن طَوق المخلوقين، ويتجاوز أهليتهم، فهم في مشقة وعلى خطر من الوصول!
أما حرف اللام " لــــ" فلا يقتضي جُهْدًا ولا انتقالا، ولا تعبًا يصيب ولا وصب، فمجرد توجه الإرادة يتحقق المراد: كن فيكون، وهذا الذي استعمله الله تعالى مع ذاته العلية، فقال: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}، فتستوي عنده المسافات والأوقات، لا يُعجزه شيء.. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. ثم هو يبلغ غايته ومُرادَه؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ} [الطلاق:3]، أي إِن اللَّه بالغ ما يُرِيدُ. وقرئت {إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أمْرُهُ}، على رفع الأمر بِبَالِغ، أَي إنَّ اللَّهَ يبلغ أَمره وينفذ، وينفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه(1). فالأمر بالنسبة له-سبحانه- ميسور متحقق نافذ.
فإذا كان مقصودك الحق وغايته بلوغه، فأيهما تتبع لِتُحقق بُغيتَك وتنال مطلوبَك؟
إنه الذي يهدي للحق، و {الله يهدي للحق}، لأن أمره ميسور نافذ متحقق مضمون.
إن الناس لو يعرفون أن طبيبا يذهبون إليه ليعالجهم من مرض عضويٍّ، ولكنه إذا عرضوا عليه حالهم، أخذ يفتش في الكتب، ويقلب الصفحات، ويتأمل الصور، ليطابق فقهه على واقعهم، ليعطيهم بعد ذلك وصفة العلاج، مكتوب عليها "ادفع الثمن، جرب هذا الدواء!"، بينما طبيب آخر بمجرد علمه بحالهم يعطيهم الوصفة جاهزة ومكتوب عليه "علاج مجَّاني، شفاء مضمون"، فإلى أيهما يختارون للاهتداء بعلمه والاستشفاء بدوائه؟! {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[النحل: 60]!
فاجتمع في منهج الله تعالى وفعله وتدبيره وتقديره: اليسرُ والتحقق:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[ الحج:70].
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[العنكبوت: 19].
إذا أراد شيئا تحقق: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[هود: 107]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس: 82]، قضاؤه كائن لا محالة:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[البقرة: 117].
وفي موضوعنا هذا يقول الله تعالى :{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام: 149]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99]. فالله لو شاء أن يهدي فإنه يهدي، وغيره: {لا يهــدِّي إلا أن يُهدى}.
خلاصته: إن الذي يتبع الله سبحانه، فإن الله {يهدي للحق}، فهو قريب منه، يسير عليه، متحقق له ما أراد من هداية خلقه إليه لا محاله، ولذلك فاتَّبع الله تجد ذلك كذلك. أما الذين يتبعون الشركاء فإنهم بصيبهم الشقاء والبلاء، ولا يلون إلى ما يريدون، ولا يهتدون سبيلا، لأن الشركاء أصلا لا أحدَ منهم {يهدي للحق}، وإنما يزعم أو يحاول أو يدَّعي أنه {يهدي إلى الحق}... فالشركاء المخلوقون اجتمع في فعلهم وإرادتهم العسر بدل اليسر، والمخاطرة...فاختر طريقك وتحمَّل مسؤوليتك.
ومع لفتة ثانية إن شاء الله تعالى
يتبع
-------------------
(1)- انظر: أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311هـ)، معاني القرآن وإعرابه، 5/ 184. وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 8/ 148.
ــــــــ
يتبعه: لفتة ثانية في بلوغ القصد
29 ذو الحجة 1435 (23/10/2014)