إنما يتقبل من المتقين
محمد علي يوسف
لا ينبغي أن تدفعنا كراهية شخص أو مظلمة قائمة عن تناسي تفصيل الأحكام، وتحرير المسائل الشرعية علميًا بعيدًا عن غلبة المشاعر، هذا من حيث تحرير مطلق المسألة علميًا وتأصيليًا.
- التصنيفات: فقه الحج والعمرة - ملفات الحج وعيد الأضحي -
الحقيقة أن المسائل العلمية والفقهية لا ينبغي أبدًا أن تناقش بالهوى ولا بمشاعر البغض، أو المحبة.
المسائل العلمية ينبغي أن تنضبط بمعيار الدليل، ومعايير الفقه وأصوله بتجرد كامل، وبالنسبة لموضوع حج محلب ووزير داخليته وإبطاله، فهو من حيث معايير العلم والفقه مسألة خلافية..
فإن كانا قد طافا الإفاضة بعد وقوفهما بعرفات، أي ليلة يوم النحر وتركا المبيت بمزدلفة ورمي جمرة العقبة، وبالتبعية تركا المبيت بمنى أيام التشريق وطواف الوداع، فقد تركا واجبات تجبر بدم، أما عن طوافهما الإفاضة ليلاً ففيه قولان، مبناهما ومناطهما على تحديد مبتدأ وقت جواز طواف الإفاضة، وهو يبتدئ من طلوع الفجر الثّاني صباح يوم النّحر عند الحنفيّة والمالكيّة..
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ أوّل وقت طواف الإفاضة بعد منتصف ليلة النّحر لمن وقف بعرفة قبله، واستدلّ الحنفيّة والمالكيّة بأن ما قبل الفجر من الليل وقت الوقوف بعرفة، والطواف مرتب عليه، فلا يصح أن يتقدم ويشغل شيئاً من وقت الوقوف، فالوقت الواحد لا يكون وقتاً لركنين.
أما الشافعية فاستدلوا بقياس الطّواف على الرّمي لأنّهما من أسباب التّحلّل، فإنّه بالرّمي للجمار والذّبح والحلق يحصل التّحلّل الأوّل، وبالطّواف يحصل التّحلّل الأكبر -بشرط السّعي-، فكما أنّ وقت الرّمي يبدأ عندهم بعد نصف اللّيل فكذا وقت طواف الإفاضة.
فلو أنهما طافا بعد مغرب يوم عرفة كما قيل، فلا أعلم من أهل العلم المعتبرين من أجاز ذلك، ولو أنهما أخرا الطواف حتى بعد منتصف الليل ثم طافا فعلى قول الشافعية يصح طوافهما، بينما لا يصح على مذهب المالكية والأحناف، وبالتالي لا يصح حجهما ولا يتحللا التحلل الأكبر حتى يطوفا على هذين المذهبين، لأن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج بالإجماع، ومن تركه أو أداه باطلاً فلا يصح حجه حتى يأتي به..
ولقد نقل الإجماع على ركنيته (ابن المنذر، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن رشد، وابن قدامة، والنووي، وابن تيمية) وغيرهم، مما سبق يتبين أن المسألة خلافية، وأن الفصل والجزم في بطلان الحج على هذا الوصف -بغض النظر عن الأشخاص- مسألة فيها نظر.
أما المشكلة الأكبر من التفريط في بعض مناسك الحج وأعمال يوم النحر، ومن هذه الاستهانة الظاهرة بشعائر الحج التي يجتمع أكثرها في اليوم العاشر من ذي الحجة، والذي سمي لأجل ذلك بيوم الحج الأكبر على أحد قولي أهل العلم، الأخطر من كل ذلك في نظري تبرير ذلك التفريط، وشرعنة ذلك بحجج توهن امتثال الناس، وتخلخل حرصهم على أداء الشعائر كما ينبغي أن يخرج من يستدل بحديث: « » (صحيح النسائي:3016)، متناسيًا ركنية طواف الإفاضة مثلاً، فتلك هي أزمة حقيقية في نظري، ومثل هذه الاستدلالات تعد التضييع الحقيقي لتعظيم شعائر الله في قلوب المسلمين..
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح النسائي:4210)، فهل معنى ذلك خلو الدين من أركانه الأخرى وواجباته الظاهرة؟! هل معنى كون الدين النصيحة عدم ركنية الصلاة، أو عدم وجوب الزكاة، أو عدم فرضية الحج؟ هل يقول بهذا من وجد رائحة العلم؟ -وأعني بالعلم العلم الحقيقي وليس ما انتحله فقهاء السلاطين وسدنة الطاغين- الجواب: لا
بل كما أن للإسلام أركان بخلاف النصيحة، فإنه كما تقدم للحج أركان بخلاف الوقوف بعرفة، ينبغي لمن أراد صحة الحج أن يأتي بها وأن يأتي بالواجبات ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وينبغي على أهل العلم بيانها وترسيخها في نفوس الناس تعظيمًا لشعائر الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وألا تمنعنهم هيبة حاكم أو مخافة مستبد أو مداهنته عن بيانها للناس..
وكذلك لا ينبغي أن تدفعنا كراهية شخص أو مظلمة قائمة عن تناسي تفصيل الأحكام، وتحرير المسائل الشرعية علميًا بعيدًا عن غلبة المشاعر، هذا من حيث تحرير مطلق المسألة علميًا وتأصيليًا.
لكن لا ينبغي أن ننسى أن رد المظالم هو أول طريق التوبة، بعد الندم والإقلاع، والعزم على عدم العودة،
وكم من مظالم ودماء في أيدي هؤلاء وأعناقهم، وإن حرمتها لتعظم عند الله عن حرمة الكعبة التي طافوا بها، ولئن أراد الظالمون المفسدون أن تصلح أعمالهم فيمكنهم ببساطة أن يتقوا الله ويتوقفوا عن ظلمهم وإفسادهم، ويؤدوا المظالم والحقوق لأهلها فإن الله لا يصلح عمل المفسدين ولا يحب الظالمين، وهو إنما يتقبل من المتقين، فقط من المتقين.