حياة بلا قلق أو توتر
السعادة الحقيقة الخالية من القلق والتوترات؛ هي حياة يملؤها الرضا بما كتبه الله تعالى لك. هي رغبة العيش بسنن ونواميس هذا الكون الفسيح.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
بسم الله الرحمن الرحيم
من منا لا يعاني في حياته من التوتر أو القلق ويبحث عن السعادة والاطمئنان في هذه الحياة ؟ من منا لا يرغب في الراحة والطمأنينة في حياته الدنيا وفي الآخرة بإذن الله تعالى؟
لو سألت هذا السؤال 100 شخص ستجد أن الجميع يتفقون على إجابة واحدة! "نعم كلنا يرغب في ذلك!!" ولو تأملت لسان حال هؤلاء جميعًا ؛ ستجد أن السواد الأعظم منهم يعمل عكس ما يرغب ويتمنى!! حقيقة هي معضلة!
قرأت مرة كتبًا لخبير التنمية البشرية الراحل د. إبراهيم الفقي بعنوان (حياة بلا توتر) يؤكد فيه رحمه الله تعالى: "أنه لا يوجد إنسان تعيس، ولكن توجد أفكار تسبب الشعور بالتعاسة، إن لم تكن سعيدًا داخليًا لن تكون سعيدًا خارجيًا وإن لم تكن كما أنت الآن لن تكون سعيدًا عندما تصبح ما تريد، وإن لم تكن سعيدًا بحياتك الآن لن تكون سعيدًا بأي حياة". باختصار إن لم تعش الجنة الآن في حياتك فلن تعيش الجنة بالمقابل بعد مماتك! إلا أن يشاء الله تعالى.
وسؤال المليون الآن!! كيف أعيش الجنة الآن؟
يؤكد د إبراهيم الفقي أن كثيرًا من الناس ينتظر أن يحدث له شيء بعينه حتى يشعر بالسعادة، كما يظن بعض الناس أن (الشعور بالسعادة) هو نتيجة النجاح، ولكن العكس هو الصحيح حيث إن (النجاح) هو نتيجة الشعور بالسعادة، ويدلل على صحة كلامه باستعراض أمثلة من حياة المشاهير مثل ألفيس بريسلي، داليدا فقد امتلكوا كل ما تمنوا وحققوا النجاح والشهرة ومع ذلك لم يكونا سعيدين في حياتهما، وأنهوا حياتهم بالانتحار.
ليتابع قائلًا لا يوجد إنسان تعيس ولكن توجد أفكار تسبب الشعور بالتعاسة، وأنه إذا لم يكن الإنسان سعيدًا بحياته فإنه لن يكون سعيدًا بأية حياة، فلا يوجد طريق إلى السعادة لأنها هي الطريق ، فالسعادة الحقيقية تكمن في حب الله تعالى واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] ومن أحبه الله تعالى فقد حاز جنة الدنيا والآخرة.
السعادة الحقيقة الخالية من القلق والتوترات؛ هي حياة يملؤها الرضا بما كتبه الله تعالى لك. هي رغبة العيش بسنن ونواميس هذا الكون الفسيح {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8].
يا صديقي إن السعادة في متناول أيدينا ولكننا لا نشعر بها لأننا ننظر إلى ما لدى الآخرين ونتمنى الحصول عليه، ولا نرضى بما هو بين أيدينا، فإذا أردنا السعادة في الدنيا وهي الجنة الآن!! فلتكن قلوبنا نقية لا تحمل حقدًا ولا ضغينة لأحد، ولنجعل الصفح والتسامح مبدأنا في الحياة، ولننظر إلى عيوب أنفسنا ونصلحها، ولنجعل أهدافنا راقية وعالية وننشغل بمحاولة تحقيقها.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كنا في المسجد عند رسول الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام: « »، قال: فدخل رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده، فسلم على النبي وجلس، قال: ولما كان اليوم الثاني قال: « »، قال: فدخل ذلك الرجل الذي دخل بالأمس، تنطف لحيته من وضوئه، مُعلقًا نعليه في يده فجلس، ثم في اليوم الثالث، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فقلت في نفسي: والله لأختبرن عمل ذلك الإنسان، فعسى أن أوفّق لعمل مثل عمله، فأنال هذا الفضل العظيم أن النبي أخبرنا أنه من أهل الجنة في أيامٍ ثلاثة، فأتى إليه عبد الله بن عمرو فقال: يا عم، إني لاحيت أبي (أي خاصمت أبي) فأردت أن أبيت ثلاث ليال عندك، آليت على نفسي ألا أبيت عنده، فإن أذنت لي أن أبيت عندك تلك الليالي فافعل، قال: لا بأس، قال عبد الله: فبت عنده ثلاث ليال، والله ما رأيت كثير صلاةٍ ولا قراءة، ولكنه إذا انقلب على فراشه من جنب إلى جنب ذكر الله، فإذا أذن الصبح قام فصلى، فلما مضت الأيام الثلاثة قلت: يا عم، والله ما بيني وبين أبي من خصومة، ولكن رسول الله ذكرك في أيامٍ ثلاثة أنك من أهل الجنة، فما رأيت مزيد عمل!! قال: هو يا ابن أخي ما رأيت، قال: فلما انصرفت دعاني فقال: غير أني أبيت ليس في قلبي غش على مسلم ولا أحسد أحدًا من المسلمين على خير ساقه الله إليه، قال له عبد الله بن عمرو: تلك التي بلغت بك ما بلغت، وتلك التي نعجز عنها (أخرجه أحمد [3/166]، والبيهقي في الشعب [6605]).
انظر يا صديقي كيف أن سلامة الصدر، وخلوه من الحسد، بلغت بصاحبها تلكم المنزلة الرفيعة، فقليل من الأعمال الخالصة يجعلها الله سببًا لنيل صاحبها الخير والفضل {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} [الجمعة:4]، هذا الفضل العظيم لمن وفقه الله فسلم صدره، وصح إيمانه، ورضي بما قسم الله له، ولم يحسد أحدًا من المسلمين، على خير ساقه الله إليه، لا يحاول التنقص منه، ولا الحط من قدره، ولا تشويه سمعته، ولا إلحاق الأذى به بأقواله وأعماله، بل هو متقٍ لله، راضٍ بقسم الله، عالم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
أمر آخر يا صديقي تأكد أن المال والجاه وغيرهما من ماديات الحياة المعاصرة ليسو من أسباب (السعادة) فزيادة المال مثلًا يتبعها زيادة إنفاق وزيادة الصراع والهموم، ولذلك يجب أن نتوقف ونسأل أنفسنا لماذا نحن متوترون وقلقون؟ فربما نجد الأسباب واهية وغير حقيقية.
إن الحياة في العصر الحديث الذي نحيا فيه تجعل من اليسير أن نعتقد أن المال وتراكم الأشياء المادية حولنا هما اللذان سيوفران لنا السعادة، ولكن المشكلة هي أنه كلما تراكمت الأشياء احتجنا إلى المزيد، وكلّ ما نملكه لا يبدو كافيًا أبدًا. لا المال ولا الأشياء المادية ولا حتى علاقاتنا الاجتماعية تجعلنا سعداء، قد نملك بعض اللحظات السعيدة، ولكنها تبدو غير ملائمة، وقد نبدأ في الشعور بأننا محاصرون في الحياة وقد نتساءل ما البديل؟
ما هذا الشيء الذي بداخلنا ويجعلنا ننشد السعادة من خارج أنفسنا؟ إنه (الأنا) الأنا هي ذاتك الزائفة.. هي ذاتك غير الحقيقية!! هي تلك الذات أو ذلك الجزء الذي بداخلنا ويهتم بالأشياء الخارجية. (الأنا) دائمًا نحاول تبرير وجودها بحياتنا بزعم أنها تسعى لما فيه صالحنا، إذ إن أجسادنا تحتاج إليها للبقاء، ومن السهل ملاحظة أن (الأنا) ترى في السعادة والحب وراحة البال أعداءً لها، لأننا عندما نستمتع بحالتنا النفسية فنحن إنما نستمتع بكينونتنا الروحية، فنرى العالم مختلفًا تمامًا عن محاولته (الأنا) تصويره لنا. وفي النهاية فسعادتنا أو تعاستنا تقاس بالدرجة التي تقبل بها النصيحة من (الأنا).
إذًا ما الطريقة للتخلص من التوتر والقلق؟ في الحقيقة يا صديقي لا توجد طريقة ناجعة وفعالة مع احترامي لكل ما قُدم من أدبيات نفسية بهذا الشأن! القلق والتوتر ما هو إلا رسالة حقيقية من الروح التي تقطن ذلك الجسد! فأنت روح طاهرة تعيش تجربة جسدية في هذه الدنيا!! وبالتالي يجب أن نتعامل مع القلق والتوتر على أنهما رسولا سلام لا نذر حرب! (إن كل ما حققته ليس سوى نتيجة لكل ما كنت تفكر فيه!).
التوتر يؤثر على الناس باختلاف هواياتهم، ووظائفهم، وبيئاتهم، ونحن نعمل بجد طيلة حياتنا من أجل أن نشعر بالتوتر، فمثلًا: تمنيت أن تعمل في وظيفة راقية، وأن يكون لديك سيارة ومسكن وغيرهما، فإذا تحققتْ لك أمنياتك فإنك تعود إلى نقطة البداية وتطلب المزيد، والتوتر مرافق لك في كل ذلك، وهو يختلف باختلاف الناس وهمومهم، فمنهم من يساعده التوتر لتحقيق المراد، بينما آخرون يؤدي بهم إلى الشعور بالإحباط واليأس.
تروي الأسطورة الصينية أن شيخًا أراد أن يعرف الفرق بين السعداء والتعساء، فذهب وسأل أحد الحكماء قائلًا: هل أخبرتني ما الفرق بين السعداء والتعساء؟ قاده الحكيم إلى قصر كبير، فما إن نزلا إلى البهو، حتى شاهدا أناسًا كثيرين تمتد أمامهم الموائد عامرة بأطايب الطعام، وكانت أجسادهم نحيلة، وتبدو على سماتهم علامات الجوع، وكان كل منهم يمسك بملعقة ضخمة طولها أربعة أمتار، لكنهم لا يستطيعون أن يأكلوا، فقال الشيخ للحكيم: لقد عرفت هؤلاء، إنهم التعساء.
ثم قاده الحكيم إلى قصر آخر، يشبه القصر الأول تمامًا، وكانت موائده عامرة بأطايب الطعام، وكان الجالسون مبتهجين، تبدو عليهم علامات الصحة والقوة والنشاط، وكانت في يد كل منهم ملعقة ضخمة طولها أربعة أمتار أيضًا، فما إن رآهم الشيخ حتى صرخ قائلًا: هؤلاء هم السعداء، ولكني لم أفهم حتى الآن الفرق بين هؤلاء وأولئك؟ فهمس الحكيم في أذنيه قائلًا: السعداء يستخدمون نفس الملاعق.. لا ليأكلوا بل ليطعم بعضهم بعضًا، فالأنا سبب التعاسة.. ونحن طريق السعادة.
يا صديقي العزيز نصيحتي لك للعيش في جنة الدنيا بأن تيعش واقعك ولا تعيش في المثاليات فأنت تريد من الناس ما لا تستطيعه فكن عادلًا، مكتبتك المنزلية هي بستانك فتنزه فيه بين الحين والآخر لا تنظر إلى الدنيا بنظارة سوداء، فأنت الذي تلون حياتك، ليس في ساعة الزمن إلا كلمة (الآن) وليس في قاموس السعادة إلا كلمة واحدة هي (الرضا). احرص على البذل والعطاء، فتمام المتعة أن نرى الآخرين يستمتعون، وتمام السعادة أن نرى الآخرين سعداء.
يقول خبراء علم النفس. ضعف التقدير الذاتي هو سبب كل مشاكل الإدمان في العالم. ومن شعور الإنسان بالدونيّة هو من أشد ما يجعله غير متزن نفسيًا، على الإنسان أن يقّدر نفسه بنفسه، فلا يوجد أي إنسان سلبي، وكل الناس قادرون على النجاح، وانتظار التقدير من الناس لا طائل من ورائه أبدًا، فكل مشغول بحياته الخاصة ومشاكله سبب قوي جدًا للإحساس بالتعاسة.. تصرّف كما أنت.. لا تكذب لإرضاء الآخرين.. لا تتصنّع ولا تتكّلف! فقط عش كل لحظة كأنها آخر لحظة في حياتك ، وقدّر قيمة الحياة.
بقلم فؤاد بن عبدالله الحمد