قضايا الحاكمية تأصيل وتوثيق - (26) ولاية المتغلب
فإذا تَمَّت له البَيعَةُ بعدُ باختيار الناس لا إكراهِهم؛ وقامَ فيهم مقامَ الإمام العادل؛ خرجَ عن وصف التَغلُّب؛ وصارَ إمامًا عدْلًا، ولا سيَّما إن كان ذلك مِن صالحٍ لا طالح، فإنَّ الغالبَ حِرصُه على دِين المُسلمين، ومُلكِهم، وإلَّا فباقٍ على حاله الأُولَى!
ولايةُ المُتغلِّب؛ تَسلُّطٌ في عمومها، ساقطةٌ غير مُلزِمة..
وليس إمامًا حتى يُبايَع، ويقوم مَقام الإمام العادِل، في حُكمه وواجباتِه!
قال الجُويني رحمه الله: "فإن الذي ينتهض لهذا الشأن -الولاية- لو بادرَه مِن غير بيعةٍ، وحاجةٍ حافزة، وضرورةٍ مُستفزَّة؛ أشعرَ ذلك باجترائه، وغُلُوه في استيلائه، وتَشوُّفه إلى استعلائه، وذلك يَسِمُه بابتغاء العُلوِّ في الأرض بالفساد، ولا يجوز عقدُ الإمامة لفاسق! وإن كانت ثورتُه لحاجةٍ، ثم زالَت وحالَت، فاستمسَك بعُدَّته، مُحاولًا حَمل أهل الحَلِّ والعقْد على بَيعته؛ فهذا أيضًا من المُطاولة والمُصاولة، وحَمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار، وهذا ظلمٌ وغشَمٌ يقتضي التفسيق، فإذا تُصوِّرت الحالةُ بهذه الصورة؛ لم يَجُز أن يُبايع، والمختار أنه وإن وجبَ تقريرُه؛ فلا يكون إمامًا ما لم تَجرِ البَيعة" (غياث الأمم).
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: المُتغلِّب؛ فاسقٌ مُعاقَب، لا يَستحقُّ أن يُبشَّر، ولا يُؤمر بالإحسان فيما
تغلَّب عليه، بل إنما يَستحق الزَّجرَ والمَقْتَ، والإعلامَ بقبيحِ أفعاله، وفسادِ أحواله" (الصواعق المُحرقة).
وقال الزمخشري رحمه الله: "وكان أبو حنيفة رحمه الله، يُفتي سرًّا بوجوب نُصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما، وحمْل المال إليه، والخروج معه على اللصّ المُتغلِّب؛ المُتسمِّي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي -المنصور أخو السفَّاح-، وأشباهه" (تفسير الكشاف).
وهذا مَبنيٌّ على أن الأصل في ولاية الناس؛ رضاهم واختيارهم، فتَملُّك رقابهم عُنوةً وغصبًا؛ طُغيانًا وظُلمًا!
لذا قال عمر رضي الله عنه: "مَن دعا إلى إمرةٍ مِن غير مَشورةٍ من المسلمين؛ فاضربوا عُنُقَه" (السُّنة للخلاَّل رحمه الله).
وفي مثل هذه الحالة؛ فلا يُكلَّفُ الناسُ بالسَّمع له والطَّاعة!
عن ابن عمر قال: "كنَّا نُبايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، ويُلقِّنُنا: فيما استطعتَ".
قلتُ: "فيه دليلٌ على أن حُكم الإكراه ساقطٌ غير لازم، لأنَّه ليس مِمَّا يُستطاعُ دفعُه" (الخطَّابي رحمه الله، في معالم السنن).
قلتُ: فإذا تَمَّت له البَيعَةُ بعدُ باختيار الناس لا إكراهِهم؛ وقامَ فيهم مقامَ الإمام العادل؛ خرجَ عن وصف التَغلُّب؛ وصارَ إمامًا عدْلًا، ولا سيَّما إن كان ذلك مِن صالحٍ لا طالح، فإنَّ الغالبَ حِرصُه على دِين المُسلمين، ومُلكِهم، وإلَّا فباقٍ على حاله الأُولَى!
لذا.. فإنَّ مَن يَرى ولايةَ مُعاويةَ رضي الله عنه كانت تغلُّبًا؛ لايَرى أن يُقاس عليه غيرُه، فشتَّان بين خَال المؤمنين، وفاسقٍ غَوِيٍّ مُبين!
قال ابنُ حجر الهيتمي رحمه الله: "ولا يُقال بنظير ذلك -التُّغلُّب- في مَن بعدَه -أي معاوية رضي الله عنه- لأن أولئك -الذين بعدَه- ليسوا من أهل الاجتهاد، بل منهم عُصاةٌ فَسَقة، ولا يُعدُّون مِن جُملة الخلفاء بوجْه، بل مِن جُملة المُلوك، بل مِن أشرِّهم" (الصواعق المُحرقة).
علَّمني الله وإيَّاكم، وأرشدّنا إلى الحقِّ ولُزوم ثَغْرِه.
- التصنيف: