قضايا الحاكمية تأصيل وتوثيق - (24) هل هناك إجماع على حرمة الخروج على الحاكم الجائر؟!
كان أبو حنيفة يستحب أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس، لما ظهر منهم من الظلم، ويرى قتالهم خيرًا من قتال الكفار، وأبو إسحاق ينكر ذلك، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك، فمن كان يرى الخروج؛ يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شق لعصا المسلمين وتفريق لكلمتهم.
هل هناك إجماع على حرمة الخروج على الحاكم الجائر، وما قول السلف في ذلك؟
والجواب عليه يتمّ بالكلام على فصول:
الفصل الأول: في بيان أنّ الفقهاء لا يقولون: إنّ الخارج على إمام الجور باغ، ولا آثم، وهذا واضح من أقوالهم، ويدلّ عليه وجوه:
الأوّل: نصّهم على ذلك، قال الإمام النّووي في (الرّوضة) ما لفظه: "الباغي في اصطلاح العلماء هو: المخالف لإمام العدل، الخارج عن طاعته، بامتناعه من أداء واجب عليه أو غيره" (أهـ كلامه)، وهو نصّ في موضع النّزاع، وقد حكى هذا عن العلماء على الإطلاق والاستغراق، ولم يستثن أحدًا.
الوجه الثّاني: "أنّ الكلام في الخروج على أئمة الجور عندهم، من المسائل الظّنيّة الفروعيّة التي لا يأثم المخالف فيها، وللشّافعيّة في جواز ذلك، وجهان معروفان" (ذكرهما في الرّوضة للنّووي، وفي مجموع المذهب في قواعد المذهب للشّيخ صلاح الدّين العلائي)، وذكر ذلك غير واحد، ومن المعلوم أنّ ذلك لو كان حرامًا قطعًا كشرب الخمر لم يكن لهم فيه قولان.
الوجه الثالث: أنّ الذّهبيّ قال في كتابه (الكاشف): "إن زيدًا رضي الله عنه استشهد بهذا اللفظ، وهذا نصّ منه في موضع النّزاع، فإنّ الباغي ليس بشهيد إجماعًا" (الإمام ابن الوزير اليماني رحمه الله في الروض الباسم).
ولمَّا ادَّعى ابن مجاهد الطائي الأشعري (ت:370هـ) إجماع الأمة على حرمة الخروج على أئمة الجور، استعظم ذلك جدًا ابنُ حزم، رحمه الله، وأنكره، فقال: "فإنه أتى فيما ادعى فيه الإجماع: أنهم أجمعوا على أن لا يخرج على أئمة الجور، فاستعظمت ذلك! ولعمري إنه عظيمٌ أن يكون قد علِم أن مخالفَ الإجماع كافر -فيه تفصيل-، فيُلقي هذا إلى الناس، وقد علم أن أفاضل الصحابة وبقية الناس يوم الحرَّة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن اتبعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضًا..
وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم، ولعمري لو كان اختلافًا يخفى لعذرناه، ولكنه أمرٌ مشهور يعرفه أكثر العوام في الأسواق، والمُخدَّرات -الفتيات- في خدورهن لاشتهاره" (ابن حزم رحمه الله، في مراتب الإجماع).
وممَّن أنكر على ابن مجاهدٍ؛ دعوى الإجماع في هذه المسألة، القاضي عياض المالكي، قال:
"ورد عليه بعضهم هذا؛ بقيام الحسين بن عليٍّ رضي الله عنه وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وفيه أنهم اتفقوا على الاحتجاج بفعل الحسين عليه السلام، ولكن منهم من احتج على جواز الخروج على الظلمة مطلقًا، ومنهم من قصره على من فَحُشَ ظلمه وغيَّر الشرع، ولم يقل مسلمٌ منهم ولا مِنْ غيرهم: إنَّ يزيد مصيبٌ، والحسين باغ، إلاَّ ما ألقاه الشيطان، ولاطمَّع الشيطان بمثل هذه الجهالة أحدًا..
والعجب ممن ادعى على ابن بطال أنه نصَّ على تحريم الخروج مطلقًا، فإن ابن بطال روى عن الفقهاء، أنهم اشترطوا في طاعة المتغلِّب إقامة الجهاد، والجُمُعات والأعياد، وإنصافَ المظلوم غالبًا، ومع هذه الشروط فما قال ابن بطال عن الفقهاء إن طاعته واجبةٌ، ولا إن الخروج عليه حرامٌ، بل قال عنهم: إنه متى كان كذلك، فطاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما فيها من حقنِ الدماء وتسكين الدهماء" (ابن الوزير اليماني رحمه الله، في العواصم والقواصم).
"كان أبو حنيفة يستحب أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس، لما ظهر منهم من الظلم، ويرى قتالهم خيرًا من قتال الكفار، وأبو إسحاق ينكر ذلك، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك، فمن كان يرى الخروج؛ يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شق لعصا المسلمين وتفريق لكلمتهم" (المُعلَّمي اليماني رحمه الله، في التنكيل).
رَوى ابنُ القاسم عن مالك: "إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذبّ عنه، والقتال معه، وأما غيره فلا، دعه وما يراد منه" (الخرشي رحمه الله في شرحه على مختصر خليل).
قلتُ: وقد تقدَّم في منشوراتٍ سبقَت آنفًا؛ النقلُ عن الأئمة الكبار، من كل مذهبٍ؛ جواز الخروج على الجائر، وحتى لو كان بشَهر الأسلحة، فكيف يقالُ بعد ذا؛ إن الخروج على ولاة الجور محرمٌ بالإجماع؟!
- التصنيف: