الأحكام السلطانية للماوردي - (76) إقطاع تمليك (1)
إقطاع السلطان مختَصّ بما جاز فيه تصرفه، ونفذت فيه أوامره، ولا يصحّ فيما تعيَّن فيه مالكه وتميَّز مستحقه، وهو ضربان: إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال.
الباب السابع عشر: في أحكام الإقطاع
إقطاع تمليك (1)
الأرض الموات
والإقطاع[1] السلطان مختَصّ بما جاز فيه تصرفه، ونفذت فيه أوامره، ولا يصحّ فيما تعيَّن فيه مالكه وتميَّز مستحقه، وهو ضربان: إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال.
فأمَّا إقطاع التمليك فتنقسم فيه الأرض المقطعة ثلاثة أقسام: موات[2] وعامر ومعادن، فأمَّا الموات فعلى ضربين:
أحدهما: ما لم يزل مواتًا على قديم الدهر، فلم تجز فيه عمارة، ولا يثبت عليه ملك، فهذا الذي يجوز للسلطان أن يقطعه من يحييه ومن يعمّره، ويكون الإقطاع على مذهب أبي حنيفة شرطًا في جواز الإحياء؛ لأنه يمنع من إحياء الموات إلّا بإذن الإمام، وعلى مذهب الشافعي أنَّ الإقطاع يجعله أحق بإحيائه من غيره، وإن لم يكن شرطًا في جوازه؛ لأنه يجوز إحياء الموات بغير إذن الإمام، وعلى كلا المذهبين يكون المقطَع أحق بإحيائه من غيره[3].
قد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام ركض فرسه من موات النقيع، فأجراه ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
»[4].
والضرب الثاني من الموات ما كان عامرًا فخرب، فصار مواتًا عاطلًا، وذلك ضربان:
أحدهما: ما كان جاهليًّا كأرض عاد وثمود، فهي كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة، ويجوز إقطاعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
»[5].يعني أرض عاد.
والضرب الثاني: ما كان إسلاميًّا جرى عليه ملك المسلمين، ثم خرب حتى صار مواتًا عاطلًا، فقد اختلف الفقهاء في حكم إحيائه على ثلاثة أقوال: فذهب الشافعي فيه إلى أنه لا يملك بالإحياء سواءٌ عرف أربابه أو لم يعرفوا.
وقال مالك: يملك بالإحياء سواء عرف أربابه أو لم يعرفوا[6]، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن عرف أربابه لم يملك بالإحياء، وإن لم يعرفوا ملك بالإحياء، وإن لم يجز على مذهبه أن يملك بالإحياء من غير إقطاع، فإن عرف أربابه لم يجز إقطاعه، وكانوا أحق ببيعه وإحيائه، وإن لم يعرفوا جاز إقطاعه، وكان الإقطاع شرطًا في جواز إحيائه، فإذا صار الموات على ما شرحناه إقطاعًا، فمن خصه الإمام به وصار بالإقطاع أحق الناس به لم يستقر ملكه عليه قبل الإحياء، فإن شرع في إحيائه صار بكمال الإحياء مالكًا له، وإن أمسك عن إحيائه كان أحق به يدًا، وإن لم يصر ملكًا ثم روعي إمساكه عن إحيائه، فإن كان لعذر ظاهر لم يعترض عليه فيه، وأقرّ في يده إلى زوال عذره، وإن كان غير معذور، قال أبو حنيفة: لا يعارض فيه قبل مضيّ ثلاث سنين، فإن أحياه فيها، وإلّا بطل حكم إقطاعه بعدها احتجاجًا بأنَّ عمر رضي الله عنه جعل أجل الإقطاع ثلاث سنين.
وعلى مذهب الشافعي أنَّ تأجيله لا يلزم، وإنَّما المعتبر فيه القدرة على إحيائه، فإذا مضى عليه زمان يقدر على إحيائه فيه قيل له: إما تحييه فيقر في يدك، وإمّا أن ترفع يدك عنه ليعود إلى حاله قبل إقطاعه، وأما تأجيل عمر رضي الله عنه فهو قضية في عين يجوز أن يكون لسبب اقتضاه أو لاستحسان رآه.
فلو تغلَّب على هذا الموات المستقطع متغلِّب فأحياه، فقد اختلف العلماء في حكمه على ثلاثة مذاهب: مذهب الشافعي: إنَّ محييه أحق به من مستقطعه. وقال أبو حنيفة: إن أحياه قبل ثلاث سنين كان ملكًا للمقطع، وإن أحياه بعدها كان ملكًا للمحيي. وقال مالك: إن أحياه عالمًا بالإقطاع كان ملكًا للمقطع، وإن أحياه غير عالم بالإقطاع خيّر المقطَع بين أخذه وإعطاه المحيي نفقة عمارته، وبين تركه للمحيي والرجوع عليه بقيمة الموات قبل إحيائه[7].
__________
(1) قال أبو عبد الله البعلي: الإقطاع مصدر أقطعه إذا ملكه، أو أذن له في التصرُّف في الشيء، قال أبو السعادات: والإقطاع يكون تمليكًا وغير تمليك (المطلع: ص [281]).
(2) الموات: كسحاب، والميتة والموتان بفتح الميم والواو: الأرض الدارسة الخراب، قاله في المغني والشرح، وعرَّفها الأزهري بأنها الأرض التي ليس لها مالك، ولا بها ماء ولا عمارة، ولا ينتفع بها، والموات مشتق من الموت وهو عدم الحياة (المبدع: [5/ 249]).
(3) قال أبو إسحاق الشيرازي: ولا يجوز لأحد أن يحمي مواتًا؛ ليمنع الإحياء ورعي ما فيه من الكلأ؛ لما روى الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حمى إلَّا لله ولرسوله»، فأمَّا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه كان يجوز له أن يحمي لنفسه وللمسلمين، فأمَّا لنفسه فإنَّه ما حمي ولكنَّه حمى للمسلمين، والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين، وأمَّا غيره من الأئمة فلا يجوز أن يحمي لنفسه للخبر، وهل يجوز أن يحمي لخيل المجاهدين ونعم الجزية وإبل الصدقة وماشية من يضعف عن الإبعاد في طلب النجعة، فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز للخبر.
والثاني: يجوز لما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضي الله عنه وجعل ينفخ ويفتل شاربه، وكان إذا كره أمرًا فتل شاربه ونفخ، فلمَّا رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرًا في شبر.
قال مالك: نبئت أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر، وقال مرة: من الخيل، وروى زيد بن أسلم عن أبيه أنَّ عمر رضي الله عنه استعمل مولًى له يدعى هنيّ على الحِمَى وقال له: يا هني، اضمم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياك ونعم ابن عوف، وإياك ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن ربَّ الصريمة وربَّ الغنيمة إن تهلك ماشيتهما فيأتياني فيقولا: يا أمير المؤمنين. أفتاركهم أنا، لا أبا لك، إنَّ الماء والكلأ أيسر عندي من الذهب والورق، والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا، فإن حِمَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضًا لحاجة، والحاجة باقية لم يجز إحياؤها، وإن زالت الحاجة ففيه وجهان:
أحدهما يجوز لأنَّه زال السبب، والثاني: لا يجوز؛ لأن ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم نصّ، فلا يجوز نقضه بالاجتهاد، وإن حماه إمام غيره وقلنا: إنه يصح حماه، فأحياه رجل ففيه قولان:
أحدهما: لا يملكه، كما لا يملك ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: يملك؛ لأن حمى الإمام اجتهاد وملك الأرض بالإحياء نص، والنص لا ينقض بالاجتهاد (المهذب: [1/ 427]).
(4) (رواه أبو داود في (كتاب الخراج [3072])، وأحمد [6422]، والبيهقي في (السنن الكبرى [11570])، والطبراني في (الكبير [13352])، وضعَّفه الشيخ الألباني).
(5) قال ابن الملقن: حديث: «عادي الأرض لله ولرسوله ثم لكم مني» رواه الشافعي من رواية ابن طاوس، كذلك والبيهقي من رواية طاوس، إلّا أنه قال: «ثم لكم من بعد» رواه كذلك موقوفًا على ابن عباس (خلاصة البدر المنير: [2/ 109]).
(6) قال أبو الحسن المرداوي من الحنابلة: فإن كان فيها آثار الملك ولا يعلم لها مالك فعلى روايتين: إن كان الموات لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة ملك بلا إحياء بلا خلاف، ونصَّ عليه مرارًا، وإن علم له مالك بشراء أو عطية، والمالك موجود هو أو أحد من ورثته لم يملك بالإحياء بلا خلاف، بل هو إجماع حكاه ابن عبد البر وغيره، وإن كان قد ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتًا، فهذا أيضًا لا يملك بالإحياء كذلك إذا كان لمعصوم، وإن علم ملكه معصوم فإن أحياه بدار الحرب واندرس كان كموات أصلي يملكه المسلم بالإحياء، قاله في المحرر، وقال القاضي وابن عقيل وأبو الفرج الشيرازي: لا يملك بالإحياء، ويقتضيه مطلق نصوصه، وإن كان لا يعلم له مالك فهو أربعة أقسام:
أحدها: ما أثر الملك جاهلي كالقرى الخربة التي ذهبت أنهارها ودرست آثارها وقد شملها كلام المصنّف، ففي ملكها بالإحياء روايتان وغيره، إحداهما: لا تملك بالإحياء، والرواية الثانية: تملك بالإحياء، وصحَّحه في الحاوي والنظم وأطلقوا، والصحيح التفرقة بين دار الحرب ودار الإسلام (الإنصاف: [6/ 355]).
(7) قال ابن قدامة المقدسي من الحنابلة: وإن تحجَّر مواتًا وهو أن يشرع في إحيائه مثل أن أدار حول الأرض ترابًا وأحجارًا أو حاطها لم يملكها بذلك؛ لأن الملك بالإحياء وليس هذا إحياء، لكن يصير أحق الناس به؛ لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره صار الثاني بمنزلته؛ لأن صاحبه أقامه مقامه، وإن مات فوارثه أحق به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك حقًّا أو مالًا فهو لورثته"، فإن باعه لم يصح بيعه؛ لأنه لم يملكه، فلم يملك بيعه كحق الشفعة قبل الأخذ به، وكمن سبق إلى معدن أو مباح قبل أخذه.
قال أبو الخطاب: ويحتمل جواز بيعه؛ لأنه له، فإن سبق غيره فأحياه ففيه وجهان:
أحدهما: إنه يملكه؛ لأن الإحياه يملك به، والحجر لا يملك به، فثبت الملك بما يملك به دون ما لم يملك به، كمن سبق إلى معدن أو مشرعة ماء، فجاء غيره فأزاله وأخذه.
والثاني: لا يملكه؛ لأن مفهوم قوله عليه السلام: "من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد" وقوله في مسلم: "فهي له" إنَّها لا تكون له إذا كان لمسلم فيها حق، وكذلك قوله: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" وروى سعيد في سننه أن عمر رضي الله عنه قال: من كانت له أرض يعني: من تحجر أرضًا فعطلها ثلاث سنين، فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها. وهذا يدل على أنَّ من عمَّرها قبل ثلاث سنين لا يملكها؛ لأنَّ الثاني أحيا في حق غيره فلم يملكه، كما لو أحيا ما يتعلق به مصالح ملك غيره، ولأنَّ حق المتحجّر أسبق، فكان أولى كحق الشفيع يقدم على شراء المشتري، فإن طالت المدة عليه فينبغي أن يقول له السلطان: إمَّا أن تحييه أو تتركه ليحييه غيرك؛ لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم، فلم يمكن من ذلك، كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينتفع ولا يدع غيره ينتفع، فإن سأل الإمهال لعذر له أمهل الشهر والشهرين ونحو ذلك، فإن أحياه غيره في مدّة ضربت له لينقطع حقه بمضيها، وسواء أذن له السلطان في عمارتها أو لم يأذن له، وإن لم يكن للمتحجّر عذر في ترك العمارة قيل له: إمَّا أن تعمّر وإمَّا أن ترفع يدك، فإن لم يعمرها كان لغيره عمارتها، فإن لم يقل له شيئًا واستمرَّ تعطيلها فقد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه أنَّ من تحجَّر أرضًا فعطلها ثلاث سنين، فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها، ومذهب الشافعي في هذا كله نحو ما ذكرنا (المغني: [5/ 331]).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: