(4) معوقات الهمة العالية (ذم دنو الهمة)
محمد بن إبراهيم الحمد
دنو الهمة مسلك دنيء، ومركب وطيء، وخلق ساقط، وعملٌ مرذول، لا يليق بأهل الفضل، ولا ينبغي من أهل النبل والعقل. والناس إنما تتفاوت أقدارهم بتفاوت هِممهم. ولذلك فداني الهمة لا قيمة له ولا قدر؛ لأنه ميَّال للدعة، مؤثر للراحة، مخلد للأرض، قاعد عن المكارم، كَلِِفٌ بالصغائر، مولع بمحقرات الأمور، هَمُّه خاصةُ نَفْسِه، فِكْرُه محصورٌ في مطعمه وملبسه، وقوت يومه وليلته.
- التصنيفات: تربية النفس - محاسن الأخلاق - أخلاق إسلامية -
دنو الهمة مسلك دنيء، ومركب وطيء، وخلق ساقط، وعملٌ مرذول، لا يليق بأهل الفضل، ولا ينبغي من أهل النبل والعقل.
والناس إنما تتفاوت أقدارهم بتفاوت هِممهم.
ولذلك فداني الهمة لا قيمة له ولا قدر؛ لأنه ميَّال للدعة، مؤثر للراحة، مخلد للأرض، قاعد عن المكارم، كَلِِفٌ بالصغائر، مولع بمحقرات الأمور، هَمُّه خاصةُ نَفْسِه، فِكْرُه محصورٌ في مطعمه وملبسه، وقوت يومه وليلته.
أما تطلاب المعالي، ونشدان الكمالات فلا يخطر له ببال، ولا يحوم له حول ما يشبهه خيال.
هذه بعض ملامح دنو الهمة، وتلك بعض صفات داني الهمة، تلك الصفات التي تجعل من صاحبها غرضًا للذِّم، وعُرْضَةً لِلَّوم.
ولهذا عيب على امرئ القيس قوله:
لنا غنمٌ نُسَوِّقُها غزار *** كأن قرون جلَّتها العِصِيُّ
وتملأ بيتنا إقطًا وسمنًا *** وحسبك من غنىً شبعٌ وريُّ[1]
وعيب على طرفة بن العبد قوله[2]:
ولولا ثلاثٌ هنَّ من عيشة الفتى *** وجَدِّكَ[3] لم أحفلْ[4] متى قام عُوَّدي[5]
فمنهنَّ سبقي العاذلاتِ بشربة *** كُمَيْتٍ[6] متى ما تُعْلَ بالماء تُزْبَدِ
وكرِّي إذا نادى المضاف[7] مُحَنّبًَا[8] *** كَسِيْد[9] الغضا نَبَّهْتهُ المتورِّدِ[10]
وتقصيرُ يوم الدَّجنِ[11] والدجنُ معجبٌ *** بَبَهْكَنة[12] تحت الخِباء[13] المُعَمَّدِ
يقول: لولا حبي ثلاث خصال هن من اللذات - لم أبالِ متى قام عودي من عندي؛ آيسين من حياتي.
وهذه الثلاث هي: شرب الخمر، وإغاثة المذعور، وتقطيع اليوم الذي تلبدت سماؤه بالغيوم - بالتمتع بامرأة حسناء تحت الخباء المعمد.
هذا هو غاية همته، ومنتهى طموحه، ولولا ذلك -كما يقول- لم يبالِ بالمنية متى نزلت به[14]!
وقريب من ذلك قول أبي نواس:
إنما العيش سماع *** ومدام و ندام
فإذا فاتك هذا *** فعلى الدنيا السلام[15]
فتراه يقصر العيش اللذيذ على السماع، والمدام، والندام، وما عدا هذه الثلاثة -عنده- لا قيمة له تُذكَر!
فأي معنى لحياة هؤلاء وأمثالهم؟ وأي عظمة يبتغونها؟ وأي فضيلة يسابقون إليها؟
فتلك الهمم والأماني وما شاكلها وجرى مجراها لا تعد من معالي الأمور، التي تتسابق فيه الهِمم، بل إنها من سفول الهمة، ومما يأنفه الكرام، ويأباه ذوو المروءة والطبع السليم، ويجزع من أن يوصف به أهل الفضل والمكانة.
ولذلك جزع الزبرقان بن بدر أيَّما جزع، وذلك عندما هجاه الحطيئة بقوله:
دع المكارمَ لا ترحل لبغيتها *** واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي[16]
وبلغ من جزعه أن استعدى على الحطيئة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فجعل عمر يهون البيت على الزبرقان، ويحمله على أنه معاتبة لا هجاء؛ كراهة أن يتعرَّض لشأن الحطيئة.
ولكن الزبرقان صَعُب، وعزَّ، وأنكر ألا تبلغ به مروءته وهمته إلا أن يأكل ويلبس (ديوان حاتم، ص: [45]، وانظر عيون الأخبار: [1/233]).
ولذلك -أيضًا- فلا غرو أن يتردد على الألسنة ذمُّ الهمم الدانية وأصحابها.
قال حاتم الطائي:
لحى الله صعلوكًا مُناه وهمُّه *** من العيش أن يلقى لبوسًا ومطعمًا
يرى الخِمْصَ تعذيبًا وإن يلقَ شبعةً *** يَبِتْ قَلْبُهُ من قِلَّة الهمِّ مبهما[17]
قال الآخر:
إذا ما الفتى لم يبغِ إلا لباسَهُ *** ومطمعَه فالخيرُ منه بعيدُ[18]
وقال المعري:
وإن كان في لبس الفتى شرف له *** فما السيف إلا غمده والحمائل[19]
قال علي بن المقرب العيوني:
عَدِمْتُ فؤادًا لا يبيت وهَمُّهُ *** كرامُ المساعي وارتقاءٌ الى المجد
لعمري ما دَعْدٌ بِهَمِّي وإن دنت *** ولا ليَ من هند غرام ولا وجد
ولكن وجدي بالعلا وصبابتي *** لعارفةٍ أُسْدي ومكرمة أُجْدي[20]
وقال:
وذو الدناءة لو مَزَّقت جِلْدَته *** بشفرة الضَّيْمِ لم يَحْسِسْ لها ألما[21]
وقال البارودي:
وما أنا ممن تأسِرُ الخمرُ لُبَّه *** ويملك سمعيه اليراعُ المثَقَّبُ[22]
وقال الرافعي: "وأما ضعف الهمة فمنزلة الحيوان الذي لا هم له إلا أن يوجد كيفما وجد، وحيثما جاء موضعه من الوجود؛ إذ هو يولد ويكدح ويكد؛ ليكون لحمًا، وعظمًا، وصوفًا، ووبرًا، وشعرًا أثاثًا، ومتاعًا، وكأنه ضرب من النبات إلا أنه من نوع آخر من المنفعة" (وحي القلم، لمصطفى صادق الرافعي: [3/379]).
وهذا سيمر بنا -إن شاء الله- مزيد بيان لهذا الأمر عند الحديث عن مظاهر دنو الهمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والهوامش:
[1]- (ديوان امرىء القيس، ص: [171]).
[2]- (ديوان طرفة بن العبد: [32-33]).
[3]- (جدِّك: قسم، والجد هو الحظ والبخت).
[4]- (لم أحفل: لم أُبالِ).
[5]- (عُوَّدي: جمع عائد من العيادة للمريض).
[6]- (كميت: وصف للخمرة، وهي التي لونها بين السواد والحمرة).
[7]- (المضاف: المذعور الذي ضافته الهموم).
[8]- (محنبًا: المحنب هو الفرس الذي في يديه الحناء).
[9]- (سيد الغضا: نوع من الذئاب، وهو أخبثها، ويسمى ذئب الغضا).
[10]- (المتورد: الذي ورد الماء).
[11]- (الدجن: الغيم في السماء، وتقصير يوم الدجن: تقطيعه بالعبث، وجعله قصيرًا باللعب).
[12]- (البهكنة: المرأة الجميلة الحسنة الخلق).
[13]- (الخباء المعمد: الخيمة).
[14]- (انظر شرح المعلقات العشر للزوزني، ص: [112-113]).
[15]- (عيون الأخبار لابن قتيبة، [1/259]).
[16]- (ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، ص: [50]، وانظر عيون الأخبار: [1/236]).
[17]- (ديوان حاتم، ص: [45]، وانظر عيون الأخبار: [1/233]).
[18]- (عيون الأخبار: [1/238]).
[19]- (شرح ديوان سقط الزند للمعري، ص: [57]).
[20]- (علي بن المقرب العيوني حياته - شعره، تأليف: د. علي الخضيري، ص: [238]).
[21]- (علي بن المقرب، ص: [258]).
[22]- (ديوان البارودي ـ شرح علي عبد المقصود عبد الرحيم، ص: [42]).