الحرية في الغرب بين النظرية الفكرية و الممارسة الفعلية
إن خروج الإنسان بدعوى الحرية على ثقافة المجتمع الصحيحة دون رادع، وتنازل المجتمع عن ثقافته نتيجة حتمية لانهيار المجتمع بكارثة تصيبه من الداخل أو الخارج، وتؤدي في النهاية إلى حرمانه مما كان غارقًا فيه من المتاع المباح..
لقد كانت لردة الفعل الاستبدادي الكنسي، واستعباد الإقطاعيين وسلبهم لحقوق الأفراد في المجتمع الأوروبي، مع ما رافق ذلك من ثورة صناعية حدثت إبان عصر النهضة الأوربية، وبداية ظهور المذهب الرأسمالي الذي قام على تشجيع الفرد وإبرازه، حتى جعل من الفرد قديسًا يحرم على المجتمع المساس بحريته، مع إلغاء كل الحواجز والعوائق التي تحول دون ذلك؛ الأثر الواضح في تشكيل الفكر الغربي بتجسده الحالي لمفهوم (الحرية) الذي أضحى النموذج الوحيد الذي يساق في المحافل الدولية، والمؤتمرات العالمية، والمنابر الإعلامية.. أو باستخراب البلدان وتطويعها؛ بدعوى أن الأمم والدول جميعها قد اتفقت وأجمعت على مضمونها! مع غياب حقيقة أن هذا الأمر ما هو إلا صياغة للمحتوى الفكري للدول الأوربية ذات البعد الاستعماري.
ونتيجة لذلك تشرب الكثير منا مفهوم الحرية بمعناه (الفلسفي الغربي) الذي يرفض كل القيود التي تلغي حرية الإنسان وإبداعه كيف ما كانت وبأي شكل، وهي ما ينادي به العلمانيون اليوم في مواقعهم الإعلامية ومنابرهم المختلفة المتعددة؛ فهي في نظرهم تهدف إلى إنقاذه مما أصابه من تسلط المجتمعات بأديانه وثقافاته! التي أفقدته إنسانيته! فبالتالي أرادوا إعادته عن طريق تحريره من تلك الفلسفات والمجتمعات؛ فجاءت الدعوة إلى الحرية، وتلقفها بنو علمان فروجوا لها في الصحف والندوات والمنتديات..
وشوهوا بذلك الإسلام ورموه بشبهات من قبيل: أنه لا يوجد حرية في الإسلام! وإنما هي مجرد دعاوى يطلقها الإسلاميون لاستقطاب الجماهير! وأنه لم يكن الإسلام يومًا ليواجه مشاكل المجتمعات بتناقضاته وإشكالاته، فضلاً عن أن يقدم مناهج لاحتواء ما يوجد في السوق الفكرية من مفاهيم وأفكار!
فكانت دعوتهم تدور على أن في الحرية يستطيع أي فرد أن يعيش بأمان، وأنها مقياس الحكم على الأشياء، ولا يوجد شيء من ذلك في الإسلام! ومن خلالها تنبع القوانين والمعرفة وليس من الإسلام! فهي تسعى سعيًا حثيثًا لتحقيق المنفعة الذاتية؛ وذلك باستغلال خيرات الطبيعة وإشباع الرغبات والشهوات! وهي السبيل الوحيد الذي من خلالها يمكن التمرد على مؤسسات المجتمع المختلفة والمناهج الإسلامية الثابتة، وعلى كل القيم والعادات والأعراف التي من شانها أن تحول بين شهوات الفرد ونزواته!
فمن هنا يتضح أن الحرية بحمولتها الفكرية التي نشأت في الغرب، ومرت بعدة مراحل منذ بداية عصر النهضة الأوربية إلى عصرنا الحاضر ما هي إلا انعكاس طبيعي لظروف محلية في أوربا، وليست كما في حس العلمانيين ومن يدور في فلكهم قيمًا ذاتية قائمة نابعة من كيان الإنسان بفطرته، ونتيجة لذلك تولد صراع قوي كان له أثر في ممارسات خطيرة على المستوى الفكري والسلوكي والطبيعي على هذا الإنسان، فمن ذلك نجد:
- الحرية عند الغرب اهتمت بجانب، وأهملت جانبًا آخر؛ فلم يكن هناك توازن واكتمال النمو؛ فقد أهملت الحرية بمفهومها الغربي الجانب الجماعي في الإنسان، وهو في حاجة ورغبة ملحة فيه، فمن المعلوم أن النفس البشرية لها طبيعة مزدوجة بين ميل إلى الذاتية وميل إلى الجماعية، وكلاهما أصيل فيه، فلا بد من العناية بهما معًا وإلا حصل الاضطراب في باطن النفس وفي واقع الحياة، وهذا ما لا يتواجد في الممارسات الإنسانية للحرية.
- ومن ذلك أنهم وسعوا في دائرة الحرية؛ حتى خرجوا بالإنسان إلى الأثرة المرذولة وساهموا في تفكيك المجتمع بالآراء الشاذة وتشتيت الطاقات.
- اعتبارهم القيم والمنظومات التربوية المنبثقة من ثقافة المجتمع، وهويته خطأ وعائق يحول دون تقدم المجتمع وتحديثه، وهذه مغالطة فادحة لأن هذه المبادئ ناشئة من داخل كيان الفرد والمجتمع معًا، والمجتمع ما هو إلا تلاقي مجموعة من الأفراد.
- إن خروج الإنسان بدعوى الحرية على ثقافة المجتمع الصحيحة دون رادع، وتنازل المجتمع عن ثقافته نتيجة حتمية لانهيار المجتمع بكارثة تصيبه من الداخل أو الخارج، وتؤدي في النهاية إلى حرمانه مما كان غارقًا فيه من المتاع المباح.
- إن الحرية تنفي عن الإنسان كل هدف أبعد من هدف المصلحة المباشرة القريبة، وتنفي عنه عنصر التطلع إلى ما هو أبعد من الذات.
- ونتجت عن هذه الحرية عدة ظواهر نفسية سيئة مثل الشعور بالوحدة والنرجسية والانكفاء الذاتي، وكذلك ساهمت في انتشار العلاقات الشاذة مثل: (علاقات البارات، وأماكن المخدرات، وعصابات الجريمة المنظمة)، بل لعبت هذه الحرية في انتشار الظواهر الجديدة كـ(اللواط والجندر)، وأثر ذلك في زيادة انتشار الأمراض الفتاكة والظواهر البشعة، وكل هذا يمارس باسم الحرية الغربية التي لا تعرف قيودًا ولا انضباطًا.
فهذه نتائج فعلية واقعية لآثار الممارسة الغربية للحرية التي يتشدق بها بني جلدتنا من العلمانيين، استنادًا إلى مناهج أقوام لها طبيعتها الخاصة في النشأة والتطور، مقتصرة فقط على الجانب المادي من الإنسان، بخلاف ديننا الإسلامي الذي يغذي الجانب الروحي والمادي، ويغذي الحب والولاء في مجاله، ويغذي البغض والبراء في مجاله، ويغذي الخوف كما يغذي الرجاء، ويوفق بين كل هذه الجوانب ليعطي لنا حرية متكاملة متوازنة لصلاح الفرد والمجتمع من رب خلق الخلق، وعلم مصلحته ومنفعته.
- التصنيف: