أركان الرجولة

منذ 2014-10-28

إنّ هاهنا أمرًا ينبغي أن لَّا نتجاهله أو نتجاوزه.. إنه لا يمكن لأيَّة حركة أو دعوة أو مشروع إسلامي؛ دعويا كان أو تربويا أو سياسيا إلا أن يكون في أهله ثلاثة أركان لا بد منها: الشرع والعقل والعاطفة.

إنّ هاهنا أمرًا ينبغي أن لَّا نتجاهله أو نتجاوزه.. إنه لا يمكن لأيَّة حركة أو دعوة أو مشروع إسلامي؛ دعويًّا كان أو تربويًّا أو سياسيًّا إلا أن يكون في أهله ثلاثة أركان لا بد منها: الشرع والعقل والعاطفة.

أما العاطفة فلا بد منها لكل حركة، لا بد من عاطفة جيَّاشة تدفع صاحبَها دفعًا وتهزه هزًّا، تتقد نارًا في فؤاده، وتُلهب أضلعَهُ؛ فلا يزال يتحرَّق على أمر أمته؛ يغتم لها ويهتم بها، حتى تصبح قضيتُها تستيقظ معه إذا استيقظ وتؤرقه إذا نام؛ فتزوره حتى في المنام..

كل ذلك ينبعث من قوة المحبة والبغض اللذين سكنا قلبه، بل ملآه حتى فاضت آثارهما حركة على الجوارح وفي الواقع.. فحبك الخير يدفعك إلى فعله، وبقدر حبه تكون السرعة وقوة الأخذ وكمية الحركة.. وبغضك الشر يدفعك عنه، ويدفع إلى تركه واجتنابه، كذلك سواء بسواء.. فأساس كل حركة هو المحبة والبغض كما يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى- ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان»(أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، الألباني؛ السلسلة الصحيحة، رقم:[380]، وقال صلى الله عليه وسلم«أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله»(الألباني؛ السلسلة الصحيحة، رقم:[998])

هكذا أوثق على الإطلاق، وما ذلك إلا لأن المحبة ولاء، والولاء عمل.. كما أن البغض براء، والبراء عمل، فانطلق الأمر من محبة وبغض قلبيين، وآلَ إلى عمل وحركة..

على ألَّا يتحول هذا التحريض والتحميس وهذه العاطفة إلى عاصفة، وأن تقف على حدود الشجاعة، ولا تتجاوزها إلى التهور؛ فإن بينهما خيطًّا رفيعًا، يغلط فيه كثيرٌ من الناس. فلا بد لها من شرع يضبطها، ولا بد لها من حدود لا تتجاوزها، ولو تُرك حبل العاطفة على غاربها لانقلبت إلى عاصفة، تعصف بكل مشروع ومعقول.. على ألَّا تتحول هذه العاطفة كما قال ذلك صحابي سعد بن عبادة رضي الله عنه: "لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه، والله أغير مني»(متفق على صحته). فلا بد من العاطفة، أو قل هي الحماسة، فلا بد من التحمس لفعل الخير ولدفع الشر ولا بد من أيضًا تحميس المؤمنين، وبالمصطلح الشرعي؛ التحريض: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:84].

وهذه الحماسة أو العاطفة، هي الغيرة التي جعلت ذَيْنِك الرجلين يأتيان يشتطَّان من أباعد المدينة وأقصاها، وليس من أدناها فحسب، ويسعيان وليس يمشيان فقط، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[القصص:20]، والآخر: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[يـس:20-21]. ذاك الأول حملته الغيرة على أعراض المسلمين ودماءهم، فجاء ينصر موسى عليه السلام، ويحميه بنصيحته بالخروج من المدينة، والثاني رجل جاء يسعى لينصر الدين ويدعوا الناس إلى اتِّباع المرسلين الذي أخلصوا في دعوتهم ولا يسألون الناسَ أجرًا.

والرجولة هنا ليست الذكورة فحسب، بل وراءها من الإيمان الجيَّاش والعلم بالله وحدوده، والعقل الراجح الحصيف ما دفعهما للسعي من أقاصي المدينة، غير مبالين بمخاطر الطريق وتكاليف التضحية، وهو ما أهّلهما للذكر في كتاب الله الخالد.

فأما الشرع فهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما تفرع عنهما أو انبنى عليهما، فهو الهدى والنور وهو البينة والبصيرة: {قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108]، {قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ۚ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[الأنعام:57]، {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}[هود:17]، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}[هود:28]..

ولضرورةِ العلم ورُكْنِيَّتِهِ في الرجولة، فقد جعله الله تعالى أولى مؤهلات القيادة، وإنما عميَ عنه السفاء، فلم يعتبروه، كما قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:247]، فقدَّم قوة العلم، على قوتي الجسم والمال، ومن خطل الرأي، وضحالة الفقه، وضُعف الرَّبانية أن يقال: ليس شرطًا أن يقود من له علم، فلم يكن خالدًا عالمًا في الصحابة، وكان قائدًا! وباختصار يقال لهم: إن لم يكن خالدٌ كذلك، فقد كان تحت إمرة العلماء، أبي بكر وعمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم أجمعين؛ فعاد الأمر إلى العلم.

وليس العلم بالشرع عن كثرة العَرض، والمحفوظ من نصوصه الشريفة وأقاويل سلفه الصالحين، بل العلم به بعد خشية في القلب؛ هو قوة فهم وحسن فقه: «نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(الألباني؛ السلسلة الصحيحة، رقم:[404])، ولذلك رأينا كثيرًا من الجفاة يحفظون نصوص الشريعة، لكنهم تأكَّلوا بها واشتروا بها ثمنا قليلا، لأنهم ليسوا فقهاء، كما قال الحسن البصري رحمه الله لسائل:"ثكلتك أمك، وهل رأيت فقيها قط؟ إنما الفقيه من يخشى الله" ومن قبلُ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[فاطر:28]. وكما رأينا أناسًا يحفظون كَمًّا مباركًا من نصوص الشريعة، لكنهم يضعونها في غير مواضعها، لِقِلَّةِ فقهٍ في نصوص الشرع وفي أحداث الواقع، وكما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولا يتمكن المفتي ، ولا الحاكم ، من الفتوى ، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

  أحدهما : فهْم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع ، بالقرائن ، والأمارات ، والعلامات ، حتى يحيط به علماً . والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع , وهو فهم حكم الله الذي حكم به ، في كتابه ، أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر"[إعلام الموقعين : 1 / 87].

فبهذا الشرع نهتدي إلى فعل الصالح حين يقابل الطالح، وبفعل الأصلح حين تجتمع الصالحات وتتزاحم في أوقاتها أو أماكنها، وبالشرع نوقف جماح الفورة الدموية عند حدود الله؛ لا تتعداها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}[البقرة:229]، بل لا تقربه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}[البقرة:187]، وهي أقرب في الاحتياط للحدود، فمن لا يقرب أصلا، لا يحوم حول الحمى ليعتدي  أو يتعدى، وبهذا العلم نستوي على ظهر الطريق، ونأمن الانزلاق على حافَّتيه؛ يمينًا أو شِمالا.

ثم لا بد من عقل صريح راجح، يفقه عن ذلك الشرع ويفقه الواقع؛ ليأخذ من حكمة الشرع بحظٍّ وافر، ويضعه مواضعه من الواقع، وإلا فكم من حامل فقه ليس بفقيه، بل كم من مفسد في الأرض بسم الفقه في الدين، وكم من واضعٍ لفتوى في غير موضعها، ويكفي أن الله تعالى جعل العقل مناط التكليف! والعقل عندنا يفهم، ويُحسِّن ويُقبِّح، ولكنه لا يُحلِّل ولا يُحرِّم إلا تبَعًا للشرع، ولن يتعارض عقل صريح مع شرع صحيح.

والرجولة بهذا المعنى هنا لا تعني الذكورة، فللمرأة نصيبها في هذا الميراث، لكن فيما يختص بها، ويليق بأنوثتها، لا أن تتحولة إلى رَجُلة، كما قيل لعائشة رضي الله عنها: إِنَّ امْرَأَةً تَلْبَسُ النَّعْلَ، فَقَالَتْ:«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَةَ مِنَ النِّسَاءِ»(الألباني؛ صحيح الجامع الصغير، رقم:[5096])، وفي رواية :قلنا فما الرجلة من النساء؟ قال:«التي تَشَبَّهُ بالرجال» (الألباني؛ صحيح الترغيب والترهيب، رقم:[2071])، وكما قال القائل:

ولـــــو كان النساء كــمن فقدنا  *** لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب  *** ولا التذكير فخـــــــر للهلال

ولئن فقدنا من النساء كما قال الشاعر، فقد فقد من الرجال أيضًا، لكن قد أبقى الله تعالى من الجنسين ما يُظْهِر الله به الدين، ويقيم به الحجة، فقط شيء مِن: العلم والعقل والعاطفة..

والله أعلم

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 10
  • 0
  • 5,429
  • أم هانئ

      منذ
    بورك فيكم ونفع اللهم بتذكرتكم .
  • أم سارة

      منذ
    (فكم من حامل فقه ليس بفقيه، بل كم من مفسد في الأرض بسم الفقه في الدين....) تلك هي الطامة وآفة عصرنا الحاضر نسأل الله العافية والسلامة جزاك الله خير االجزاء مقالة رائعة فعلا

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً