القدوة الحسنة

منذ 2014-10-28

لعلها من أخطر آليات العمل الإسلامي والتعاون بين فصائله وجماعاته الصادقة الجادة، ولا يكاد يخفى على أحد من العاملين، بل المسلمين أثرُه الحسن إن حضر، وخطر السيء إن فُقِد من ساحة المتكلمين.. إن الكلمات الفعَّالة هي تلك الكلمات التي خرجت من قلب مفعم بالإيمان، ثم صدقها العمل.. وستظل الدعوات دعاوى ما لم تقم عليها البيناتُ (1).

لعلها من أخطر آليات العمل الإسلامي والتعاون بين فصائله وجماعاته الصادقة الجادة، ولا يكاد يخفى على أحد من العاملين، بل المسلمين أثرُه الحسن إن حضر، وخطر السيء إن فُقِد من ساحة المتكلمين.. إن الكلمات الفعَّالة هي تلك الكلمات التي خرجت من قلب مفعم بالإيمان، ثم صدقها العمل.. وستظل الدعوات دعاوى ما لم تقم عليها البيناتُ (1).

إن من أوليات خُطَب الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه أنه قال: "إنكم في حاجة إلى إمام فعَّال أكثر من حاجتكم إلى إمام قوَّال". وحتى لا نقع تحت قارعة قول الله تعالى:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]. فيجب أن نحذر من رفع الدعاوى التي لا نقيم عليها بيِّنات من العمل.

إن كثيرًا من الكلمات يمكن أن نختصرها في حركات أو مواقف، إن الأمة في تخمة من الكلام والخطب، وانظر القناطير المقنطرة والأطنان فقط من خُطب الجمعة في العالم الإسلامي وغير الإسلامي، فلو كان الكلام كافٍ لكفى في تعريف المسلمين بأنفسهم، قبل أن يطالبوا بتصدير دعوتهم لأهل الأمم الأخرى..

ولو تدبرنا موقفاً لم يكلف من العمل كثيراً، ولم يحتج في الدعوة إليه إلا إلى بضع كلماتٍ، أشارت بها أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، لما تأخر الصحابة عن الحلق في الحديبية، وقد قال لهم صلى الله عليه وسلم: "قوموا فانحروا، ثم احلقوا" (2) فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس،: فقالت أم سلمة: يا رسول الله: أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعوا حالقك فيحلقك. فقام صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك بالتمام، فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضُهم يقتل بعضا غمّاً (2).

انظر إلى بعض السلف، كان إذا أراد أن يدعوا المسلمين لتحرير العبيد، انتظر حتى يكون له مال، فيشتري به أَعْبُدا فيحررهم، حتى لا يكون من الذين يقولون ما لا يفعلون، أو الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، ولكي يجد لدعوته عند المدعوين مكانة ولها قبولاً.

وهذه القدوة لا حدود لها، ولا حصر لها في مجال من المجالات، ولا اختصاص لها بفرد دون آخر، وإلا كيف تستقيم دعوة من يأمر الناس مثلاً إلى الحِلم والهدوء والجدال بالتي هي أحسن، وهو يشتطُّ عليهم غضباً في هذه الموعظة نفسها في غير ما خطبة! أو يدعوهم إلى التناصح والنقد البناء، وهو لا يقبل نقداً ولا توجيهاً.. ناقة الله وسقياها.. أو يدعوهم إلى تنازل المسلمين والدعاة خاصة بحظوظ أنفسهم لحظ الدعوة، وهو في برج عاجي، يقول بلسان القال أو الحال: هذه لكم وهذه أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، ثم لينظر ما يُهدى له.. أو يدعو المصلحين للنزول إلى الميدان وهو يردد بلسان القال أو الحال: من ابتغانا أتانا، ومن نادانا فقد هجانا!

وليست القدوة الفردية فحسب، فإن قدوة الجماعة لغيرها أيضا ذات أثر بليغ، وهل يغيب عنا كيف كان المجتمع الإسلامي الأول قدوة لغيره من أمم الأرض، بل حتى القبائل والبطون كانت تنافس غيرها في صناعة الأفضل،.. كأنك تعني الأنصار يا رسول الله صلى الله عليه وسلم... كنتم أول من نصر فلا تكونوا أول من يخذل.... من هنا يأتي النصر.... وهكذا عبارات كانت تقال في ميادين المواقف ..

وهناك بعض جماعات المسلمين من يصح أن نعتبره قدوة في هذه الدعوة.. الدعوة إلى التعاون، وإلا التعايش، واجتناب العراك.. ولعل من بركة منهج التربية (4) على أهله خصوصاً وعلى المسلمين عموماً أن أمكنهم بإذن الله تعالى من تجاوُز فتنة التطاحن مع المخالفين.. حتى أولئك المخالفين في أخص شيء في المنهج.. وهو التعجل.. سواء التعجل إلى المواجهة المسلحة أو إلى السياسية الحزبية. المتشددة منها أو المتميعة!.. فمع الرفض الواضح القاطع للطريقتين كتليهما.. لم يكن هناك عِراك ولا تطاحن ولا تباغض، ولم تمُت الأخوة ولم ينقطع حبلها.. وظل الرفض القاطع لنقاط الخلاف دون غيرها.. وظل الجسر ممدوداً، وعند جُهينة الخبر اليقين.. وإن شُذّ في شيء من ذلك فمن جانب واحد!

1- يقول سيد رحمه الله تعالى: "لست ممن يؤمنون بحكاية المبادىء المجردة عن الأشخاص لأنه ما المبدأ بغير عقيدة حارة دافعة؟ وكيف توجد العقيدة الحارة الدافعة في غير قلب إنسان؟. إن المبادىء والأفكار في ذاتها -بلا عقيدة دافعة- مجرد كلمات خاوية أو على الأكثر معان ميتة! والذي يمنحها الحياة هي حرارة الإيمان المشعة من قلب إنسان! لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تنبت في ذهن بارد لا في قلب مشع. آمن أنت أولا بفكرتك، آمن بها إلى حد الاعتقاد الحار! عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون! وإلا فستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة! لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان، ولم تصبح كائناً حياً دب على وجه الأرض في صورة بشر! كذلك لا وجود لشخص -في هذا المجال- لا تعمر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة وإخلاص... إن التفريق بين الفكرة والشخص كالتفريق بين الروح والجسد أو المعنى واللفظ، عملية -في بعض الأحيان- مستحيلة، وفي بعض الأحيان تحمل معنى التحلل والفناء! كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان!.. أما الأفكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدس فقد ولدت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبرا واحدا إلى الأمام!" [أفراح الروح].

2- الألباني ، صحيح سنن أبي داود،

3- انظر زاد المعاد لابن القيم المجلد الثالث.

4- ومما يجدر التنبيه عليه أن التربية ينبغي أن تشمل كل شيء في الإسلام وكل مناحي الحياة: التربية الإيمانية الروحية والعلمية الشرعية، وإن استطاعوا العلوم التجريبية فحسن جداً، والتربية العملية ذات أهمية بالغة أي يتربون على العمل بتلك المعلومات حتى لا تتحول إلى مجرد تخزين معلومات تُحشى بها الأذهان وتنعقد عليها الجنان ولا تعمل بها الأبدان، وكما يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله: "إن الحركة التي تطول ثقافتها بين الأوراق، يكثر لديها الجدل وتتولد عندها قسوة القلوب" أما الصحابة فكما قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً" وقالوا: "فتعلمنا العلم والعمل جميعاً" فهم يتعلمون العمل كما يتعلمون العلم والإيمان. فلنكن مثلهم.

 

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 0
  • 0
  • 1,746

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً