الهمة العالية - (9) معوقات الهمة العالية (أسباب دنو الهمة 1)

منذ 2014-10-28

والشأن في ذلك كالشأن في النبات؛ فالنبات في المنبت السوء لا تزال بيئته به حتى تضعفه وتميته، وفي المنبت الصالح ينمو ويترعرع، وينبت من كل زوج بهيج، [وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} [الأعراف من الآية:58].

لدنو الهمة أسباب عديدة، تحول بين الفرد أو الجماعة وبين الترقي في مراتب الكمال، ومدارج الفضيلة.

والحقيقة أن هناك تداخلاً بين أسباب دنو الهمة ومظاهره؛ ذلك أن أكثر المظاهر تعد أسباباً، وأكثر الأسباب تعد مظاهر في الوقت نفسه؛ ولهذا فلن يذكر في هذا الموطن ما قد سبق ذكره عند الحديث عن المظاهر إلا ما لابدَّ منه، وذلك إيثاراً للاختصار، واكتفاءً بما قد سبقت الإشارة إليه؛ فمن أسباب دنو الهمة ما يلي:

1. طبيعة الإنسان:
فهناك من الناس من جُبِلَ على دنو الهمة، والإخلاد إلى الأرض، والميل إلى الراحة والدعة، والكلف بالصغائر ومحقرات الأمور.

فلا يسعى في تطلاب الكمال، ولا يأخذ بالأسباب التي تعلي من همته، وترفع من قدره، فيعيش العمر كله وهو قابعٌ في مكانه، لا يتقدم إلى للأمام خطوة، ولا يرقى في سلم المجد درجة، بل ربما نزل للحضيض دركة بعد دركة.

2. التربية المنزلية:
فالتربية المنزلية لها دور عظيم في توجيه الأولاد سلباً أو إيجاباً؛ فالبيت هو المدرسة الأولى للأولاد، والولد قبل أن تربيه المدرسة والمجتمع يربيه البيت والأسرة، وهو مدين لوالديه في سلوكه المستقيم، كما أن والديه مسؤولان إلى حدٍ كبير عن انحرافه وفساده[1].

قال ابن القيم : "وكم ممن أشقى ولده، وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه. ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة. وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت أن عامته من قِبَلِ الآباء"[2].

فكم من الناس من يربي أولاده على الجبن، والخوف، والهلع، والفزع، فَيُخَوِّفُهُم بالغُول، وبالعفريت؛  ليكفوا عن عبثهم. وأسوأ ما في ذلك أن يخوفهم بالطبيب أو المعلم. ومن هنا ينشأ الولد جباناً رعديداً يَفْرَقُ من ظله، ويخاف مما لا يُخاف منه.

وكم من الناس من يربي أولاده على الميوعة والترف، والبذخ، والطيش؛ فينشأ الولد مترفاً منعَّماً، همه خاصة نفسه فحسب، فلا يهتم بالآخرين، ولا يسأل عن إخوانه المسلمين، فلا يشاركهم أفراحهم، ولا يشاطرهم أتراحهم. فهذه التربية مما يفسد المروءة، ويقتل الاستقامة، ويقضي على الشهامة والشجاعة.

وكم من الناس من لا يربي أولاده على معالي الأمور، وإنما يربيهم كما تربى الخراف سواء بسواء؛ فلا هم له من أولاده إلا مطعمهم وملبسهم، وتلبية كافة رغباتهم، أما ما عدا ذلك فلا يخطر له ببال. ومن هنا ينشأ الولد بليداً، ساقط الهمة، قليل المروءة.

ومن الناس من هو بعكس ما مضى؛ حيث تجده يشتد على أولاده، ويقسو عليهم أكثر من اللازم، فيضربهم ضرباً مبرحاً عند أدنى خطأ، ويبالغ في تعنيفهم عند كل صغيرة وكبيرة.

ومنهم من يهزأ بأولاده، ولا يرى أنهم أهل لشيء من المكرمات.

ومنهم من لا يأبه بمحادثة أولاده، ولا يلقي بالاً لتعليمهم آداب الحديث وطرائقه؛ فلا يصغي إليهم إذا تحدثوا، ولا يجيب عن أسئلتهم إذا سألوا، بل ربما كذَّبهم إذا أخبروا، ونهرهم وأسكتهم إذا تكلموا.

ومنهم من يشتد بالتقتير عليهم، وربما قصَّر عليهم في حاجاتهم الضرورية مع قدرته على توفيرها لهم، مما يشعرهم بالنقص والحاجة، وربما قادهم ذلك إلى البحث عن المال بأي طريقة، إما من السرقة، أو من مسألة الناس أو بالارتماء في أحضان رفقة السوء.

ومنهم من يحرم أولاده من العطف والشفقة والحنان، مما قد يقودهم إلى البحث عن ذلك خارج المنزل.

إن هذه الأنماط من التربية مما يحول بين الأولاد وبين عزة النفس، وما يتبعها من قوة القلب، وأصالة الرأي.
بل هي مما يولد الخوف في نفوسهم، ومما يورث الذلة، والمهانة، والخجل الشديد، وفقدان الثقة بالنفس.

إن التربية النافعة ما كانت أثراً لمحبة يطفىء البأس شيئاً من حرارتها، وصرامة تلطف الشفقة نبذة من شدتها، وهي التي يستوجب بها الوالدان دعاء الولد بقوله:   {رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًۭا} [الإسراء من الآية:24] [3].

أضف إلى ذلك أن الأولاد يرثون طباع والديهم كما يرثون قاماتهم وأشكالهم. ولذلك قيل: "إذا أردت ولداً صحيحاً فتخير له آباء أصحاء أقوياء"[4].

ويقول الشاعر العربي في وصف ابنه[5]: 

أعرف من قِلَّة النُّعاس *** وخفةً في رأسه من راسي

وقال عدي بن الرقاع[6]:

والمرء يورث جوده أبناءه *** ويموت آخر وهو في الأحياء

فإذا كان الوالد عديم المروءة، ساقط الهمة فإن ذلك الأثر سيلحق بالأبناء في الغالب.

3. البيئة والمجتمع:
فلهذين الأمرين أهمية كبرى في علو الهمة وسفولها، فقد يكون ذلك سبباً لترقي الإنسان، وقد يكون بالعكس من ذلك تماماً.

والشأن في ذلك كالشأن في النبات؛ فالنبات في المنبت السوء لا تزال بيئته به حتى تضعفه وتميته، وفي المنبت الصالح ينمو ويترعرع، وينبت من كل زوج بهيج، [وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} [الأعراف من الآية:58].

كذلك الإنسان إذا نشأ في بيئة صالحة؛ من بيت طيب، ومجتمع تشيع فيه الفضيلة، ومدرسة تُعنى بدين الطلاب وخلقهم، وكان يحكمه دين صحيح نبت خير منبت، وتربى خير تربية، وإلا فما أحراه أن يكون سافل القدر، شريراً، لا خير فيه[7].

4. قلة وجود المربين الأفذاذ والمعلمين القدوات:
وهذا الأمر من أعظم أسباب دنو الهمة، فمما يؤسف عليه قلة المربين الأفذاذ، والمعلمين الناصحين القدوات، الذين يربون طلابهم على نشدان المعالي، وتطلاب الكمالات.

فتجد من المعلمين من لا همَّ له إلا إلقاء الدرس فحسب، بِغَضِ النَّظر عن توجيه الطلاب، وتربيتهم، والنصح لهم.

وتجد فيهم من يؤدي درسه بكل تثاقلٍ وبرودٍ، وكأن الدرس جبلُ على عاتقه يسعى لإزاحته، وبالتالي يفقد الدرس الحرارة والروح، فتقل فائدة الطلاب من الدرس، فلا يجدون اليدَ الحانيةَ، والقلب الرحيم، والنفس الأبية، التي تنشد عزَّهم، وتروم فلاحهم.

وتجد من المعلمين من هو ضعيف النفس، مهزوم الوجدان، مهزوز الشخصية ساقط الهمة، ضيِّق النظرة، يربي الطلاب على الجبن والخور، والتقليد الأعمى.

ومن هنا يخرج الجيل الذي تربى على أمثال هؤلاء جيلاً جباناً، ضعيف النفس، قانعاً بالدون، يرى أستاذه عقبة كؤوداً لا يستطيع تجاوزها.

5.  وسائل الإعلام:
فوسائل الإعلام لها دورٌ خطيٌر في التربية، ولديها قدرةٌ كبيرةٌ على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها دور بالغ في تنحية دور الأسرة والمدرسة.

فإذا ما انحرفت تلك الوسائل قادت الناس إلى الهاوية، وأصبحت معاول هدم وتخريب، وأدوات فساد وانحلال، ومدارس لتمييع الأخلاق، وقتل المروءة والرجولة. وهذا سبب عظيم يقود إلى سفول الهمم ودنوها.

6ـ همُّ الزوجة والأولاد:
فقد تكون الزوجة فتنة لزوجها، فتصده عن العبادة،وتعوقه عن طلب العلم، والسعي للمعالي، وذلك بسبب رِقَّةِ دينها، أو كثرة طلباتها، وتخذيلها لزوجها.

وكذلك الأولاد قد يكونون فتنة وبلاء لوالدهم، فتراه يخاف عليهم، ويحرص على تأمين مستقبلهم، ويخشى من ضياعهم بعد فراقه الدنيا.
أما إذا انحرفوا عن سواء السبيل فلا تسل عن شقاء الأب وحسرته.
وصدق الله عز وجل إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن من الآية:14]، وإذ يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال من الآية:28]، وقال «إن الولد مبخلة، مجبنة، مجهلة، محزنة»[8].

فالزوجة والأولاد كثيراً  ما يثنون ذا الهمة عن مراده؛ ولهذا فكم عانى الكرام والشجعان منهم ومن تخذيلهم. فهذا أحدهم يقول مبيناً عاقبته عندما أطاع زوجته في الشهوات[10]:

أطعت العرس[9] في الشهوات حتى *** أعادتني عسيفاً عَبْْدَ عَبْدِ
إذا ما جئتها قد بعتُ عِذقاً *** تعانقُ أو تُقبِّل أو تُفدِّي

وهذا مالك بن الريب يصور حواره مع ابنته، التي تحاول ثَنْيَه عن الذهاب للجهاد في سبيل الله فيقول[11]:


تقول ابنتي إن انطلاقك واحداً *** إلى الروع يوماً تاركي لا أبالياً
ذريني من الإشفاق أو قدِّمي لنا *** من الحديثانِ والمنية وافياً
ستتلف نفسي أو سأجمع هجمة *** ترى ساقييها يألمان التراقياً

وهذا جوية بن النضر، يحكي لنا ما دار بينه وبين زوجته طريفة عندما لامته على كثرة بذله وعطائه فيقول[12]:


قالت طريفةُ ما تبقى دراهِمُنا *** وما بنا سرفٌ فيها ولا خرقُ
إنِّا إذا اجتمعت يوماً دراهمُنا *** ظلَّت الى سبل المعروف تستبقُ
مايألف الدرهمُ المضروبُ خرقتَنَا *** إلا يمر عليها ثم ينطلق
حتى يصيرَ الى نذلٍ يخلده *** يكاد من صرِّه إياه ينمزق

وهذا أحدهم يوصي بالخطار بالنفس، ويرى أن الجلوس مع العيال لا يليق بذي الهمة فيقول[13]:

خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة *** إن الجلوس مع العيال قبيح

ولا يعني الدعوة للتمرد على الزوجة و الأولاد، وهضمهم حقوقهم، والتقصير في رعايتهم، بقدر ما هو دعوة للتوازن ووضع الأمور في نصابها، ومكانة اللائق بها، من غير ما إفراط أو تفريط[14].

7. قلة التشجيع:
فكثيراً ما يبرز أحد في ميدان من الميادين، ثم لا يجد من يأخذ بيده، ويعينه على نفسه. بل ربما وجد من يخذله، ويضع العقبات في طريقه، ومن هنا تخبو ناره، وتدنو همته.

8. صحبة الأشرار ومرافقة المخذّلين:
فالصحبة السيئة تحسن القبيح وتقبح الحسن، وتجر المرء الى الرذيلة، وتبعد عن كل خير وفضيلة؛ ذلك أن المرء يتأثر بعادات جليسه، فالصاحب ساحب، والطبع استراق.

ثم أن مجالسة المخذلين ومرافقتهم تنساق بصاحبها الى الحضيض،فكلما همّ بالصعود عوقوه عن همته، وثنوه عن عزيمته، تارة بالتخذيل، وتارة بالتخويف، وتارة بوضع العراقيل وهكذا. ولو لم يأته من مجالسة هؤلاء إلا أنه يقارن حاله بحالهم، فيتعاظم في نفسه، ويرى أنه أرفع منهم قدراً، وأعلا منهم منزلة، فلا يسعى في إصلاح حاله، ولا في رفع شأنه، بل ربما قاده ذلك إلى مقارنة سيئاته بسيئاتهم، فيستقل سيئاته بجانب سيئاتهم، فيجره ذلك الى الجرأة والإقدام على فعل الموبقات والآثام[15].

وصدق البارودي إذ يقول[17]:

تعست مقارنةُ اللئيم فإنها *** شرقُ النفوس ومحنة الكرماء
أنا في زمان قلّب[16] ومعاشر *** يتلونون تلون الحرباء
قد أصبحوا للدهر سُبَّةَ نادمٍ *** من كل مصدر محنة وبلاء
وأشد ما يلقى الفتى من دهره *** فقد الكرام وصحبة اللؤماء

9. ضعف الإيمان:
فالإيمان جذوة تتقد في قلب صاحبها، فتقوده إلى كل خير، وتنأى به عن كل شر، فإذا ما ضعف الإيمان أو فقد فإن صاحبه لن يبالي بالمكرمات، ولن يسعى للمعالي. ثم إن ضعف الإيمان أو فقده أعظم ما يقلل بركة العمر والعلم والعمل، وإذا فقدت البركة في شيء فأي خير يرتجى من ورائه؟ ثم إن همة المؤمن أعظم الهمم؛ إذ أن مراده هو رضا الله ودخول الجنة، وأي همة تعدل هذه الهمة أو تقترب منها؟

------------------

[1] (انظر أخلاقنا الاجتماعية د. مصطفى السباعي ص[155]، ونظرات في الأسرة المسلمة د. محمد الصباغ ص[154]).

[2] (تحفة المودود في أحكام المولود لابن القيم ص[146-147]).

[3] (حياة الأمة ص[25]، والسعادة العظمى لمحمد الخضر حسين ص[99]).

[4] (الأخلاق لأحمد أمين ص[42]).

[5] (الأخلاق ص[43]).

[6] (عيون الأخبار [1/233]).

[7] (انظر الأخلاق ص[48-49]).

[8] (خرجه الحاكم [3/296]، والطبراني في الكبير [24/241] برقم [614]، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع [1990]).

[9] (العرس: هي الزوجة).

[10] (عيون الأخبار [1/243]).

[11] (عيون الأخبار 1/238]).

[12] (وتنسب الأبيات لحاتم الطائي، وطريفة كانت جارية له، وقد قالت له: "اتق الله، وأبق على نفسك"، وذلك عندما أتى قومه مُحمَّلاً بالعطايا من النعمام بن المنذر، وفرق المال على أعاريب طيء. انظر الحماسة (التبريزي [4/826])، وديوان حاتم الطائي، صنعه يحيى بن مدرك الطائي، رواية هشام بن محمد الكلبي تحقيق د.عادل سليمان جمال ص[302]، وانظر الإسلام والحضارة الغربية د. محمد محمد حسين ص[246ـ247]).

[13] (عيون الأخبار [1/238]).

[14] (انظر أخطاء في مفهوم الزواج والحياة الزوجية للكاتب -يسر الله إتمامه-).

[15] (انظر بهجة قلوب الأبرار ص[224]، ومن تجالس للشيخ عبد الله الجعيثن ص[36ـ44]).

[16] (في الديوان: (غادر)، ولعل كلمة ( قُلَّب) اصوب وأنسب، ثم إنها لا تغير الوزن).

[17] (ديوان البارودي ص[31]).

المصدر: كتاب: الهمة العالية.

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

  • 3
  • 0
  • 12,881
المقال السابق
(8) معوقات الهمة العالية (مظاهر دنو الهمة 4)
المقال التالي
(10) معوقات الهمة العالية (أسباب دنو الهمة 2)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً