الأحكام السلطانية للماوردي - (86) فيما اختص ببيت المال من دخل وخرج (7)
الباب الثامن عشر: في وضع الديوان وذكر أحكامه
فيما اختص ببيت المال من دخل وخرج (7)
فصل:
وأما القسم الرابع فيما اختص ببيت المال من دخل وخرج، فهو أن كل مال استحقه المسلمون، ولم يتعيِّن مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال، فإذا قبض صار بالقبض مضافًا إلى حقوق بيت المال، سواء أدخل إلى حرزه أو لم يدخل؛ لأنَّ بيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان، وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال، فإذا صرف في جهته صار مضافًا إلى الخراج من بيت المال، سواء خرج من حرزه أو لم يخرج؛ لأنَّ ما صار إلى عمَّال المسلمين أو خرج من أيديهم، فحكم بيت المال جار عليه في دخله إليه وخرجه.
وإذا كان كذلك فالأموال التي يستحقها المسلمون تنقسم ثلاثة أقسام: فيء وغنيمة وصدقة.
فأما الفيء: فمن حقوق بيت المال؛ لأنَّ مصرفه موقوف على رأي الإمام واجتهاده.
وأما الغنيمة: فليست من حقوق بيت المال؛ لأنها مستحقة للغانمين الذين تعينوا بحضور الواقعة لا يختلف مصرفها برأي الإمام، ولا اجتهاد له في منعهم منها، فلم تصر من حقوق بيت المال.
وأمَّا خمس الفيء والغنيمة فينقسم ثلاثة أقسام: قسم منه يكون من حقوق بيت المال، وهو سهم النبي صلى الله عليه وسلم المصروف في المصالح العامة؛ لوقوف مصرفه على رأي الإمام واجتهاده، وقسم منه لا يكون من حقوق بيت المال لخروجه عن اجتهاد الإمام ورأيه.
وقسم منه يكون بيت المال فيه حافظًا له على جهاته وهو سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، إن وجدوا دفع إليهم، وإن فقدوا أحرز لهم.
وأما الصدقة فضربان:
صدقة مال باطن: فلا يكون من حقوق بيت المال؛ لجواز أن ينفرد أربابه بإخراج زكاته في أهلها.
والضرب الثاني: صدقة مال ظاهر؛ كأعشار الزروع والثمار وصدقات المواشي، فعند أبي حنيفة أنه من حقوق بيت المال؛ لأنه يجوز صرفه على رأي الإمام واجتهاده، ولم يعينه في أهل السهمين، وعلى مذهب الشافعي لا يكون من حقوق بيت المال؛ لأنه معين الجهات عنده، لا يجوز صرفه على غير جهاته، لكن اختلف قوله هل يكون بين المال محلًّا لإحرازه عند تعذر جهاته؟ فذهب في القديم إلى أن بيت المال إذا تعذَّرت الجهات يكون محلًّا لإحرازه فيه إلى أن توجد؛ لأنه كان يرى وجوب دفعه إلى الإمام، ورجع عنه في مستجد قوله إلى بيت المال لا يكون محلًّا لإحرازه استحقاقًا؛ لأنه لا يرى فيه وجوب دفعه إلى الإمام، وإن جاز أن يدفع إليه فذلك لم يستحق إحرازه في بيت المال، وإن جاز إحرازه فيه.
وأما المستحق على بيت المال فضربان:
أحدهما: ما كان بيت المال فيه حرزًا فاستحقاقه معتبر بالوجود، فإن كان المال موجودًا فيه كان صرفه في جهاته مستحقًّا وعدمه مسقطًا لاستحقاقه.
والضرب الثاني: أن يكون بيت المال له مستحقًّا فهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون مصرفه مستحقًّا على وجه البدل كأرزاق الجند وأثمان الكراع والسلاح، فاستحقاقه غير معتبر بالوجود، وهو من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم، فإن كان موجودًا عجل دفعه كالديوان مع اليسار؛ وإن كان معدومًا وجب فيه على الإنظار كالديون مع الإعسار.
والضرب الثاني: أن يكون مصرفه مستحقًّا على وجه المصلحة والأرفاق دون البدل، فاستحقاقه معتبر بالوجود دون العدم، فإن كان موجودًا في بيت المال وجب فيه وسقط غرضه عن المسلمين، وإن كان معلومًا سقط وجوبه عن بيت المال، وكان إن عمَّ ضرره من فروض الكفاية على كافة المسلمين حتى يقوم به منهم من فيه كفاية كالجهاد، وإن كان مما لا يعم ضرره كوعورة طريق قريب يجد الناس طريقًا غيره بعيدًا، أو انقطاع شرب يجد
الناس غيره شربًا، فإذا سقط وجوبه عن بيت المال بالعدم سقط وجوبه عن الكفاية لوجود البدل، فلو اجتمع على بيت المال حقَّان ضاق عنهما واتسع لأحدهما صرف فيما يصير منهما دينًا فيه، فلو ضاق عن كل واحد منهما جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الارتفاق، وكان من حدث بعده من الولاة مأخوذًا بقضائه إذا اتسع له بيت المال.
وإذا فضلت حقوق بيت المال عن مصرفها فقد اختلف الفقهاء في فاضله، فذهب أبو حنيفة إلى أنه يدخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث. وذهب الشافعي إلى أنه يقبض على أموال من يعمّ به صلاح المسلمين ولا يدخر؛ لأن النوائب تعين فرضها عليهم إذا حدثت، فهذه الأقسام الأربعة التي وضعت عليها قواعد الديوان.
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: