الهمة العالية - (18) أسباب اكتساب الهمة العالية (1)
فأثر الوالدين في التربية عظيم، ودورهما في إعلاء همم الأولاد خطير وجسيم، فإذا كان الوالدن قدوة في الخير، وحرصاً على تربية الأولاد، واجتهدوا في تنشئتهم على كريم الخلال وحميد الخصال، مع تجنيبهم ما ينافي ذلك من مساوئ الأخلاق ومرذول الأعمال، فإن لذلك أثراً عظيماً في نفوس الأولاد، لأن الأولاد سيشبون بإذن الله، متعشقين للبطولة، محبين لمعالي الأمور، متصفين بمكارم الأخلاق، مبغضين لسفاسف الأمور، نافرين عن مساوئ الأخلاق.
للهمة العالية أسباب تبعثها وتحركها، وهناك سبل تعين على اكتسابها والتحلي بها، وذلك إذا أخذ بها الإنسان، ووطن نفسه عليها.
فمن الباب الباعثة للهمة، والسبل المعينة على اكتسابها بالنسبة للفرد أو الجماعة ما يلي:
1. طبيعة الإنسان:
فهناك من الناس من جُبل على علو الهمة، فلا يرضى بالدون، ولا يقنع بالقليل، ولا يلتفت إلى الصغائر، ولا تغدو بِلُبِّه الدنايا ومحقرات الأمور.
ولهذا قيل: "ذو الهمة إن حُطَّ فنفسه تأبى إلا عُلوَّاً، كالشعلة في النار يصوِّبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً" [1]. قال عمر بن عبدالعزيز: "إن لي نفساً تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نِلْتُها تاقت إلى الخلاقة، فلما نِلْتُها تاقت إلى الجنة!" [2]. وقال بعضهم:
وليس نفس تنازعني إذا ما *** أقول لها لعلِّي أو عساني
وقال الشافعي [3]:
أمطري لؤلؤاً جبال سرنديـــ *** ــب وفيضي آبارَ تكرورَ تبرًا
أنا إن عشتُ لست أعدم قُوْتاً *** وإذا متُّ لست أعدم قبرًا
همتي همةُ الملوكِ ونفسي *** نفسُ حرٍّ ترى المذلة كفرًا
وقال أبو فراس الحمداني [4]:
إني أبيت قليل النوم أرَّقني *** قلبٌ تصارع فيه الهمُّ والهِمَمُ
2. أثر الوالدين، ودورهما في التربية الصحيحة:
فأثر الوالدين في التربية عظيم، ودورهما في إعلاء همم الأولاد خطير وجسيم، فإذا كان الوالدن قدوة في الخير، وحرصاً على تربية الأولاد، واجتهدوا في تنشئتهم على كريم الخلال وحميد الخصال، مع تجنيبهم ما ينافي ذلك من مساوئ الأخلاق ومرذول الأعمال، فإن لذلك أثراً عظيماً في نفوس الأولاد، لأن الأولاد سيشبون بإذن الله، متعشقين للبطولة، محبين لمعالي الأمور، متصفين بمكارم الأخلاق، مبغضين لسفاسف الأمور، نافرين عن مساوئ الأخلاق [5].
ثم إن صلاح الآباء يدرك الأبناء، بل إن نبوغ الآباء يؤثر أيما تأثير في نفوس الأولاد، فمما يهيء الناشيء للنبوغ أن يسبقه أب أو جد بالنبوغ، فإن كثرة تردد اسم سلفه العبقري على سمعه، ومطالعته لبعض آثار عبقريته، يثيران همته، ويرهفان عزمه لأن يظفر بما يظفر به سلفه من منزلة شامخة وذكر مجيد [6].
ولا أدل على عظم شأن الوالدين في التربية، وأثرهما البالغ في نفوس الأولاد من حال سلفنا الصالح الذين خرجوا لنا أكرم جيل، وقدموا لنا أفضل رعيل، لا يدانيهم أحد في الفضل، ولا يبلغ شأوهم في النبل. فمن كان وراء هؤلاء الأبطال؟ ومن الذي صنع أولئك الرجال؟
إننا لو سبرنا أحوالهم، وتبعنا سيرهم، لوجدنا أن وراء كل واحد منهم أباً عظيماً، أو أمَّاً عظيمة، يربون أولادهم على تطلاب الكمال، ونشدان المعالي.
فهذا أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب ÷ تنقل في تربيته بين صدرين من أملا صدور العالمين حكمة، وأحفلها بجلال الخلال، وكريم الخصال فكان مغداه على أمه فاطمة بنت أسد، ومراحة على أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها [7].
وهذا أمير المؤمنين، أريب العرب، وألمعيُّها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، من كان وراءه؟ لقد كان وراءه أمٌّ عظيمة هي هند بنت عتبة وهي القائلة: وقد قيل لها ومعاوية ووليد بين يديها: "إن عاش ساد قومه"، قالت: "ثكلته إن لم يسد إلا قومه". وكان معاوية إذا نوزع الفخر بالمقدرة، وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمه، فصدع أسماع خصمه بقوله: "أنا ابن هند!" [8]. وهكذا أبوه له شأن عظيم في الجاهلية والإسلام [9].
وهذا عبدالله بن الزبير، كان وراءه أمٌّ عظيمة كريمة شجاعة، وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
وهي القائلة، وقد نعي ابنها عبدالله: "ما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل".
وهي القائلة أيضاً قبل ذلك عندما استشارها ابنها عبدالله بن الزبير في قتال الحجاج: "اذهب؛ فالولله لضربة بالسيف على عزٍّ، أفضل من ضربة بالسوط على ذل" [10]. وهكذا أبوه الزبير له شأن عظيم وكان حواري النبي [11].
3. النشأة في مجتمع مليء بالقمم:
فمن بواعث الهمة، ومهيئات النبوع، أن يشب الناشيء الذكي في مجتمع مليء بالقمم الحقيقية من الأبطال والمجاهدين، والعلماء العاملين، فهذا مما يحرك همته، ويبعث عزمته، كي يحذو حذوهم، ويسير على نولهم.
4. تقدير النوابغ، ورعاية المواهب:
فالنوابغ يحتاجون إلى توجيه مستمر، وإلى رعاية وصيانة، وإلى أن تهيء لهم مقوماتُ النبوغ والألمعية. فإذا نشأ الألمعي النابغة في مجتمع يَقْدُرُهُ قَدْرَه، وينظر إليه بعين الإكبار والتَّجِلَّة، هَفَتْ نفسُه لكل فضيلة، ورَنَتْ عينه إلى كل بطولة، فيزداد بذلك جدَّاً في الطلب، وسعياً إلى أقصى درجات الكمال.
ولهذا فلا عجب أن يظهر النابغون في العلم والأدب، والشجاعة في بلاد الأندلس، لأن أهلها يعظمون من عظمه علمه، ويرفعون من رفعه أدبه. وكذلك سيرتهم في رجال الحرب، ويقدمون من قَدَّمَتْهُ شجاعتُه، وعظمت في الحروب مكايده [12].
5. وجود المربين الأفذاذ، والمعلمين القدوات:
الذين يتسحضرون عظم المسئولية، ويستشعرون ضخامة الأمانة، والذين يتسمون ببعد النظر، وعلو الهمة، وسعة الأفق، وحسن الخلق و الذين يتحلون بالحلم والعلم، والصبر والشجاعة، وكرم النفس والسماحة.
فأثر هؤلاء في التربية كبير، ودورهم الذي يقومون به غير يسير، فالواحد من هؤلاء الأفذاذ ممن اجتمع له ما اجتمع من خصال الخير، ومن معاني السمو الألمعية، لابد أن يتأثر به طلابه، وأن ينطبعوا بطابعه، لأنه سيربيهم على معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، والتطلع للكمالات.
فإن أتيت للعلم وجدته يفتح لهم أبوابه، ويشحذ قرائحهم لفهم معانيه وإدراك مراميه، ورأيته يطلق لهم العنان في البحث، ويردهم إلى الصواب برفق إن أخطأوا، ويثني عليهم إن ناقشوا فأصابوا. بل إنه سيحرص جهده على أن يكون من تحت يده خيراً منه، فلن يقف حجر عثرة أمام طلابه، ولن يجد في نفسه غضاضة أن يتفوق أحدهم عليه.
وما ذلك إلا لكرم نفسه، وعلو همته، وسعة أفقه، ولأنه يسعى للإصلاح، ويروم رفع الغشاوة عن الناس، ولأنه يعمل للآخرة، ويعلم أن أجره سيدوم ويتضاعف إذا هو خرَّج طلاباً يخلفونه في العلم، وينشرون ما تلقوه على يديه. يقص علينا التاريخ أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي تلاميذه في العلم إلى الذروة، ولا يجد في نفسها حرجاً من أن يظهر عليه أحدهم في بحث أو محاورة.
يذكرون أن العلامة أبا عبدالله الشريف التلمساني كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه، ويبرزه في أحسن صورة. ويروى أن أبا عبدالله هذا كان قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد ابن الإمام الكلام في مسألة، وطال البحث اعتراضاً وجواباً، حتى ظهر أبو عبدالله على أستاذه أبي زيد، فاعترف له الأستاذ بالإصابة، وأنشد مداعباً [13]:
أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتد ساعده رماني
وإن أتيت للمجالات الأخرى وجدت هذا المربي الفاضل يربيهم على خلق العدل، وفضيلة الإنصاف، والتجافي عن ساقط القول ومرذوله. وستجده أيضاً يربيهم على خلق الشجاعة، وصرامة العزم، وعزة النفس، وإباءة الضيم، كما أنه سيربيهم على التواضع الجم، والبعد عن الإعجاب والتعالي على عباد الله.
فإذا تربى الطلاب على الدين القويم، ووصلت معانيه إليهم من طريقها الصحيح، وقام على التربية معلمون ربانيون مخلصون، رسخت الفضائل في نفوسهم، وقرَّت بها قرار ذات الصدع تحت ذات الرجع، فلا ترى من جراء تلك التربية إلا حياء وعفافاً، وأمانة وصدقاً، واستصغاراً للعظائم، وغيرة على المصالح، وما شئت بعدُ من عزة النفس، وكبر الهمة.
تلك الخصال التي لا تنبت أصولها، ولا تعلوا فروعها إلا أن يتفيأ عليها ظلال الهداية ذات اليمين، وذات الشمال، فالإسلام دين ينير العقول بالحجة، ويهذب النفوس بالحكمة.
وكم أخرجت مدارسه، أو مجالس القوامين على هدايته من رجال يلاقون الأسود فيصرعونها، ويجارون الرياح فيسبقونها، يخفضون أجنحتهم، تواضعاً للمستضعفين، ويرفعون رؤوسهم، عزة على الجبارين، تعترضهم الأخطار فيخوضون غمارها، وتَعْتَلُّ قلوب أو عقول فيضعون الدواء موضع عللها، عدل كأنه القسطاس المستقيم، وسخاء كأنه الغيث النافع العميم، وجد في طلب العلم وإن كان بمناط الثريا، وطموح إلى المعالي وإن انتبذت وراء الفلك الدوار مكانا قصياً [14].
قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في وصيته للمعلمين: "ثم احرصوا على أن يكون ما تلقونه لتلاميذتكم من الأقوال منطبقاً على ما يرونه ويشهدونه منكم من الأعمال، فإن الناشئ الصغير مرهف الحس، طُلَعَةٌ إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامُكم. وإنه قوي الإدراك للمعايب والكمالات، فإذا زينتم له الصدق فكونوا صادقين، وإذا حسَّنتم له الصبر فكونوا من الصابرين.
واعلموا أن كل نفس تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشاً في نفوسكم فهو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحهم من قبل أن يكون متغلغلاً في أرواحكم فهو لا محالة ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه لا ستنزالهم غير الصدق فهو باطل.
إلا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة، وأما ما يأخذه عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة، فهو ربح وفائدة [15].
----------------------------
[1] (عيون الأخبار [1/233]).
[2] (عيون الأخبار[1/231]).
[3] (ديوان الشافعي ص [44]).
[4] (ديوان أبي فراس الحمداني ص [156]).
[5] (انظر: التقصير في تربية الأولاد المظاهر، سبل الوقاية والعلاج للكاتب ص [50-92]).
[6] (رسائل الإصلاح[1/180]).
[7] (انظر: صفحات من سيرة الأم المسلمة للشيخ د: محمد بن إسماعيل ص [79]).
[8] (المرجع السابق).
[9] (من تعليقات سماحة الشيه عبدالعزيز بن باز).
[10] (انظر:عودة الحجاب د: محمد بن إسماعيل [2/136-146]، وانظر التقصير في تربية الأولاد للكاتب ص 41-47]).
[11] (من تعليقات سماحة الشيه عبدالعزيز بن باز).
[12] (انظر: رسائل الإصلاح [1/180]).
[13] (رسائل الإصلاح [1/44]).
[14] (انظر: رسائل الإصلاح [1/24 و561]، وفيض الخاطر [6/127-128]).
[15] (عيون البصائر لمحمد البشير الإبراهيم ص [291]، وانظر: كلاماً جميلاً حول هذا المعنى في عيون البصائر ص [288-300 ]، وآثار محمد البشير الإبراهيمي [1/161-166].
- التصنيف: