إحسان الظن بالله - (19) ستر الله على عباده

منذ 2014-11-01

قال ابن القيم: اصدق مع الله تعش بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيك ما تحذره، ولطفه يرضيك بما يقدره...

السلام عليكم ورحمة الله، أحبتي الكرام لا زلنا في سلسلة (فن إحسان الظن بالله).

دعونا نرتب أفكارنا، أين وصلنا في السلسلة؟ قلنا في البداية أن محبة الله تعالى أجمل ما تعيش من أجله، فلا بد من بنائها على أسس لا تتأثر بالمتغيرات، أولها تأمل أسماء الله تعالى وصفاته. وقلنا أنك بهذا التأمل تحول البلاء إلى سبب لمحبة الله بدلا من أن يزعزع هذه المحبة. 


تأملنا حكمة الله وتودده وإعانته ورحمته ومغفرته. عندما تكلمنا عن مغفرة الله وكيف أن علينا أن نحول ندمنا إلى قوة دافعة لإصلاح أوضاعنا استطردنا بالحديث عن تحويل المشاعر المؤلمة عموما إلى قوة دافعة بما يحفظ لنا حسن ظننا بالله، ذكرنا تحويل الوساوس إلى يقين وتحويل الألم على أوضاع المسلمين في سوريا وغيرها إلى قوة دافعة للانتهاء عما يسخط خالقنا وحبيبنا عز وجل. 


أود أن أختم هذا المحور من السلسلة (وهو تأمل أسماء الله وصفاته) بالحديث عن صفتين تتأملهما في البلاء، لننتقل بعدها إلى ركيزة ثانية من ركائز محبة الله تعالى. هاتان الصفتان هما لطف الله تعالى وستره على عباده.


نتكلم اليوم عن لطف الله تعالى،قال ربي سبحانه: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى من الأية:19]، مهما اشتد بلاؤك فلا بد أن ترى من ربك تعالى لطفا فيه إن أحسنت الظن به تعالى.


تأمل لطف الله بنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم في أشد لحظات حياته حراجة وإيلاما، عندما عاد من الطائف وقد سخر منه ساداتها ورماه بالحجارة سفهاؤها، وهو الآن في طريق العودة إلى مكة حيث تنتظره الشماتة والتكذيب والتضييق، وقد ماتت الوفية العطوف خديجة رضي الله عنها، وأبو طالب الذي كان يحمي النبي ويفديه بنفسه وأولاده، وزاد الألمَ جدًا أنه مات كافرًا.

 

لم يعد لرسول الله في مكة مأوى ولا منعة، وكان هذا كله بعد عشر سنوات من البعثة، أصحابه فيها يعذبون ويشردون ويقتلون، ولا يدري النبي صلى الله عليه وسلم كم ستمتد هذه المعاناة، كانت هذه أشق لحظات حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وصفها النبي بقوله في الحديث المتفق عليه: «فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفقْ إلا وأنا بقرنِ الثعالبِ»، قرن الثعالب منطقة تبعد حوالي 35 كيلومترا عن الطائف، سار النبي هذه المسافة في حر الشمس ووحشة الصحراء دون أن يشعر بها من شدة الهم.


ومع ذلك، يأتي لطف الله تعالى ليخفف عن رسوله صلى الله عليه وسلم في أشد اللحظات حراجة، في هذه اللحظة كأن الله تعالى وضع الكفار جميعا في قفص الاتهام، وأعطى رسوله مطلق الحرية في القضاء لينفذ فيهم الحكم الذي يشاء، ففي تتمة الحديث المتفق عليه الذي ذكرناه قال عليه الصلاة والسلام: «فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ، فناداني فقال: إن اللهَ قد سمع قول قومِك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث اللهُ إليك ملكَ الجبالِ، لتأمره بما شئتَ فيهم، فناداني ملكُ الجبالِ، فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمدُ، فقال: ذلك فيما شئتَ، إن شئتَ أن أُطبقَ عليهم الأخشبَينِ؟».


سبحان الله! نفس النبي كسيرة بما لقي من أهل مكة والطائف، وقدماه لا زالتا تدميان، فيجعل الله تعالى حبيبه بهذا العرض في مقام الحاكم نافذ الأمر، بينما الكفار جميعا كأنهم قيدوا بالسلاسل أذلة صاغرين.


ملكان ينتظران كلمة من شفتي النبي تنهي المعاناة وتشفي الصدر وتذهب غيظ القلب، انظر كم هو محمد صلى الله عليه وسلم كريم القدر عند ربه سبحانه! أليس هذا لطفا عظيما من الله بحبيبه؟ عندما يرى رسول الله قدره عند ربه ومحبة ربه له وغضبه من أجله.


فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال للملكين –بمنتهى السمو الإنساني والعظمة البشرية-: «بل أرجو أن يخرجَ اللهُ من أصلابهم من يعبد اللهَ وحده، لا يشركُ به شيئًا»، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. 


أليس هذا لطفًا عظيمًا من الله بنبيه، أن يسلِّمه زمام الأمر ويجعله صاحب القرار، ثم النبي من نفسه يختار الصبر على أذاهم، لا عن عجز، بل عن عظمة ورحمة. فبدل أن يشعر النبي بالقهر وانعدام الحيلة تجاه هؤلاء المعاندين يصبح كالأب الذي اختار هو بنفسه الصبر على هؤلاء الأولاد العاقين. 


وقد روى أهل السير حديثًا مرسلاً أن غلامًا نصرانيًا اسمه عداس أسلم على يد النبي في هذه الرحلة أيضًا.
عندما تبتلى تأمل كيف أن بلاءك كان من الممكن أن يأتي أشد، ثم تأمل وجوه لطف الله تعالى بك. عندما تعرض صاحبكم لبلاء الأسر فتح الله عليه بتأمل وجوه اللطف،فكتبت في بدايات الأسر قائمة بعنوان: (أمور خففت البلاء). وصلت فيها إلى 37 أمرا خفف الله بها هذا البلاء، ثم اكتشفت كثيرا غيرها بعدها. 


يخفف الله عنك باللقاء برجل ابتُلي قبلك فصبر، ببسمة تراها على وجه أخيك، برعاية الله لعيالك ومن يهمك شأنهم، بمحبة أناس نبلاء ومساندتهم لك، بكتاب تقرأه، بذكرى جميلة، بأمل في الفرج ينبعث في قلبك، بصورة جميلة للمستقبل ترتسم في ذهنك، بتوسيع الله لك في جانب آخر من حياتك غير الجانب الذي ضاق عليك، بتعريضك قبل البلاء الكبير لبلاء أصغر يمرنك ويعودك على الصبر، بكشف الله قبح ظالمك، وغيرها الكثير.

 

ومن لطائف اللطف الرباني أنك تكون في بلاء تضيق به ثم يأتيك بلاء آخر جديد ينغص عليك ويزيد همك أكثر فأكثر، فإذا فرج الله هذا الهم الجديد انشرح صدرك وهان عليك بلاؤك الأصلي.


ومن لطائف اللطف الرباني تلك الرؤى الطيبة المصبرة التي رأيت من نفسي ومن كثيرين حولي مذاقها الجميل وكم صبَّرت من مبتلى وهدَّأت نفسه،.لطف لا يكن في حساباتك ولا يخطر ببالك قبل وقوعه عادة،


قد تقول في نفسك، لكن هناك بلايا لا نرى فيها لطفا، فأين اللطف فيما يحصل مع إخواننا في سوريا وهم تنتهك حرماتهم ويعذبون ويحرقون ويدفنون أحياء؟ فالجواب: بل أعظم مظاهر اللطف نراها في بلائهم! ألا وهو تثبيتهم على الإيمان في لحظات تعذيبهم وقتلهم، بدلاً من موتهم على معصية.

 

إنسان على وشك مفارقة الدنيا والرحيل إلى ربه، مثل هذا لا يحتاج تخفيف البلاء، بل مضاعفته ليتضاعف الأجر، لأنه على وشك انقطاع العمل وطي كتاب الحسنات والسيئات. وعامة إخواننا هؤلاء ممن خلط من قبل عملا صالحا وآخر سيئاً كحالتنا، وممن تراوح إيمانه بين نشاط وفتور،

 

فأي لطف أعظم من أن يعصمه الله من شؤم سيئاته ويقذف في قلبه إيمانا ينطقه بالشهادتين وبعبارات التفويض إلى الله (ما لنا غيرك يا الله) بينما كثير غيره يموت في بيته وقصره ميتة سوء ولا يوفق للنطق بهما؟! روى أبو نعيم في حلية الأولياء أن عمر بن عبد العزيز قال: "مَا أُحِبُّ أَنْ تُهَوَّنَ عَلَيَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ لأَنَّهَا آخِرُ مَا يُكَفَّرُ بِهِ عَنِ الْمُسْلِمِ".


ختاما، قال ابن القيم: اصدق مع الله تعش بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيك ما تحذره، ولطفه يرضيك بما يقدره.

 

خلاصة الحلقة: مهما اشتد البلاء، أحسن الظن بالله، وسترى حينئذ أشكالا من لطف الله فيه. 

  • 13
  • 0
  • 11,162
المقال السابق
(17) ماذا أفعل من أجل سوريا
المقال التالي
(20) يائس.. مستوحش.. قلق.. خائف

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً