اللطيف الله
إنه تعالى لطيف بالعباد كلهم، بَرهم وفاجرهم، لكنَّ لطفه بالبَّر لطفٌ خاص مستمر في الدنيا والآخرة، ولطفه بالفاجر لطفٌ عام يكون ابتلاءً وامتحانًا، وربما يزداد الفاجر به فجورًا بما لطف الله، ويستعمل نعمته في معصيته.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعدُ:
فإنه كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الأعراف:180]، وكما أنه الله تعالى واحد، فهو وحده المتصف بالأسماء الحسنى، كما قال تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[طه:8]. فما عرف عبدٌ ربَّه بمثل ما تعرف عليه من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العُلى.
بل سترى من نفسك عجبًا، نحو الله تعالى وشعورًا تجاهه، وتعاملا معه، وخشية منه، ومحبة له، وإذعانًا له، وتعظيمًا لجَنَابه الكريم، حين تعرف معنى اسمه اللطيف، وكلَّما ازددت معرفة باسم، ازددت تقوى وعبودية له.
ومن هذه الأسماء الحسنى، البالغة في الحسن منتهاه، بل لا نهاية لكمال حسنها: اسم الله اللطيف.
واللطيف: وصف مشتق من اللطف أو من اللطافة. يقال: لطف- بفتح الطاء- بمعنى رفق، وأكرم، واحتفى. ويتعدى بالباء وباللام باعتبار ملاحظة معنى رفق أو معنى أحسن.
وإِنَّمَا يسْتَحق هَذَا الِاسْم من يعلم دقائق الْمصَالح وغوامضها وَمَا دق مِنْهَا وَمَا لطف ثمَّ يسْلك فِي إيصالها إِلَى المستصلح سَبِيل الرِّفْق دون العنف فَإِذا اجْتمع الرِّفْق فِي الْفِعْل واللطف فِي الْإِدْرَاك تمّ معنى اللطف وَلَا يتَصَوَّر كَمَال ذَلِك فِي الْعلم وَالْفِعْل إِلَّا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فاللَّطِيف: صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَاسْمٌ مِنْ أَسمائه. فهو اسم ذات تضمَّن صفة فعل، وقد ذُكِر في القرآن سبع مرات، خمسٌ منها مطلقًا غير مقيَّد، ومقرونا بالخبير:
{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34].
ومرتان منها جاء مقيَّد ومُعَدًّى بحرف جر: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف:100]، {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى:19].
ومن خلال هذه السياقات وجد العلماء لاسم الله "اللطيف" معنيين أساسيين، يشتملان على معاني فرعية لا حصر لها ولا عد. يقول ابن القيم في نونيته، وهي من أحسن ما نظم في التوحيد وأجمعه، يقول:
وهو اللطيف بعبده ولعبده**** واللـطـف فـي أوصافه نوعـــان
إدراك أسرار الأمور بخبرة **** واللطف عند مواقع الإحـــسان
فمن خلال قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى:19]. فلاحظ أنه سبحانه قيَّد لطفَه بعباده، وعدَّاه بحرف الباء، فهو لطيفٌ بهم، بمعنى يعلم حالهم ومآلهم، ويعلم ما دقَّ وخفي مما ينفعهم أو يضرهم، وما يصلحهم أو يفسدهم، لأنه سبحانه هو خالقهم كما قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. ويعلم ما أظهروا من أعمال وأقوال، وما أخفوا، كما قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [بالرعد:9-10].
وقال تعالى:{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، فقال تعالى: {يأت بها الله}، فتمكنه من للطف علما وقدرة وحسن تدبير، يصل إلى مثقال الذرة المتناهي الصغر، فيأتي فيبلغها علمه ويحيط بها، ثم يأتي بها من قلب تلك الصخرة، مع سلامتها من التصدع.
والمعنى الثاني لاسم اللطيف يدل عليه قوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100]. فعدَّاه باللام: {لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}، فهو الذي بلطفه يوصل الخير إلى مخلوقاته، ويدبر لهم بحكمته، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، يسوقهم إلى مصالحهم وهم كارهون، ويسوقها إليهم وهم شاردون، يمكنهم منها وهم عاجزون، ولو تأملت حال الإنسان مذ كان جنينا في بطن أمه، ولطف الله يحوطه، وينتقل به لما كان منك إلا أن تسجد لعظمة الله ورفقه بهذا المخلوق.
بل إنه تعالى لطيف بالعباد كلهم، بَرهم وفاجرهم، لكنَّ لطفه بالبَّر لطفٌ خاص مستمر في الدنيا والآخرة، ولطفه بالفاجر لطفٌ عام يكون ابتلاءً وامتحانًا، وربما يزداد الفاجر به فجورًا بما لطف الله، ويستعمل نعمته في معصيته. قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32].
وفي قوله تعالى : {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ}، عقَّب على صفة اللطف بأنه يرزق من يشاء، فمن لطفه تعالى يسوق إليك الرزق من حيث لا تحتسب ولا تشعر ولا تقدر له سببًا، وهذا الجنين في بطن أمه، يوصل إليه الغذاء من حيث لا تشعر أمه التي تحمله فضلا عن الجنين الذي لا يعقل، ثم يرزق الثدي يرضعه من غير حول منه ولا قوة، ويخرج له اللبن السائغ من بين فرث ودم، من حيث أن تشعر الأم بمصنع الحليب في صدرها، ولا تسمع لآلات صوتا ولا ضجيجا. ويمنع الصبي الأسنان حتى لا يأكل ثدي أمه، فيؤذيها ويَحرم نفسه سلامة المنبع.. ثم يرزقه أسنانا لبنية يتمرس بها على أكل ما يناسب جسمه ومعدته، ولا يُعطيه أسنانا عظمية تؤذيه وتشوِّه منظر فمه الجميل، حتى إذا نمى وكبر، أذاب الله أسنانه تلك، فنُزعت واحدة واحدة بيسر وسهولة، ويرزقه أخرى تليق وتناسب.
ومعرفة الإنسان بهذا الاسم ومعناه، وإيمانه به لله على الوجه الذي يليق به سبحانه، على قاعدة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]؛ فإنه يؤثر فيه آثارًا عديدة، منها:
- أنه بمعرفته أن الله لطيف يعلم ما جلَّ وما دق، وما ظهر وما خفي، حتى ما انطوت عليه الصدور، فإنه عنئذ يلتزم جانب التقوى، ويجتهد في ألَّا يراه حيث نهاه، ولا أن يفتقد حيث أمره.
- وبمعرفته أن الله هو الذي يوصل الرزق لعباده، فلن يطلب رزقه من غيره، ولا يخدش عقيدته بولاء لمخلوق ولا بتوكل عليه ولا طمعًا في مخاليق محاويج مثله.
- ومعرفته أن ذلك عند الله ومنه، فإنه يخاف إغضاب الله تعالى فيمسك عنه خيره، ويحجب عنه توفيقه، ويرفع عنه رعايته، أو يزيل عنه نعمته، فيُلبسه لباس الجوع والخوف بما يصنع من معاصيه.
وكما قال الشاعر:
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذلّ إدمانها
وقال الآخر:
إذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا **** فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحَــامِ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الْإِلَــــهِ **** فَإِنَّ الْإِلَــــهَ سَرِيعُ النِّقَمْ
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: