الهمة العالية - (27) أسباب اكتساب الهمة العالية (10)
قال ابن حزم رحمه الله: "من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها - فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به بمنه آمين".
29- إباءة الضيم:
الضيم: الظلم والاضطهاد، وإباءته: كراهته والنفور منه.
والنفور الصادق من الضيم يستلزم الغضب عند وقوعه.
ولهذا الخُلق صلة محكمة بخلقين عظيمين، هما: عزة النفس، والبطولة؛ فمن لم يكن عزيز النفس لم يتألم من أن يضام، ومن لم يكن بطلًا احتمل الضيم؛ رهبة أو حرصًا على الحياة.
قال أبو النشناش النهشلي:
فمت معدمًا أو عش كريمًا؛ فإنني *** أرى الموتَ لا ينجو من الموتِ هاربه[1]
وقال عدي بن رعلاء الغساني:
ليس من مات ماستراح بميت *** إنما الميْتُ من يعيش ذليلًا
إنما الميت ميت الأحياء *** سَيِّئًَا بالهُ قليلُ الرجاءِ[2]
وقال سويد بن أبي كاهل يمدح قومه:
وإباءٌ للدَّنِيَّات إذا *** أعطي المكثور[3] ضَيْمًا فكنع[4][5]
فإباءة الضيم من علامات الهمة العالية، ومن مقوماتها الأساسية.
ولهذا فإن الرجل الذي يغار على ذوي القرابة والصداقة والجوار، ويبذل في إنقاذهم من الضيم دمه، أو ماله، أو جاهه - يعظم بهذه المزية في أعين من يقدرون المكارم قدرها. وأكبر أباة الضيم همة، وأرقاهم في سماء السيادة مقامًا - هو من يغار على الأمة في دينها، ويأبى أن تمسها لفحة من ضيم، فيجاهد في سبيل سلامتها من أن يهضم حق من حقوقها، أو يغتصب شبر من أوطانها[6].
ويصور لك إباء الرجل لأن يضام قول عتبان الشيباني حين نزلت ثقيف متقلبة على أرض قومه:
فلا صلح ما دامت منابر أرضنا *** يقوم عليها من ثقيفٍ خطيب[7]
30- الغيرة الصادقة:
فالغيرة الصادقة هي التي تنهض بصاحبها إلى مكافحة المبطل أو المفسد، وتقويم عوجه في تثبت وحزم، وهي التي تبعث الرجل على الجهاد في الحق بأي وسيلة استطاعها[8].
"فالرئيس الغيور يذود عن الحق بما تحت يده من قوة، متى كان الهاجم عليه في غشاوة تمنعه من أن يفقه الحجة. والعالِم الغيور لا يفتأ يذب عن الحق بلسانه أو قلمه، ولا يسوقه طمع أو رهبة إلى الخمول أو الصمت. وما خمول العالِم وصمته سوى قلة الثقة بما وعد الله به أنصار الحق من فوز وحياة طيبة. والمنفق الغيور ينفق في سبيل الإصلاح باليمين واليسار"[9].
"وفصل القول في هذا أن الغيرة على الحق والمصلحة ما غلبت على نفوس الأمة إلا استقامت سيرتها، وعلت في الأمم سمعتها، وحسنت في كلا الحياتين عاقبتها"[10].
31- قُصر الأمل، وتذكر الآخرة:
فهذا من أعظم الموقظات للهمة، ومن أكبر البواعث على الجد والاجتهاد؛ ذلك أن المرء إذا تذكر قُصر الدنيا وسرعة زوالها، وأدرك أنها مزرعة للآخرة، وأنها فرصة لكسب الأعمال الصالحة، وتذكر ما في الجنة من النعيم المقيم، وما في النار من العذاب الأليم - زهد في ماتع الدنيا، وأقصر عن الاسترسال في الشهوات، وانبعثت همته للأعمال الصالحات.
قَصِّر الآمال في الدنيا تَفُزْ *** فدليل العقل تقصير الأمل[11]
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «
قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعليقًا على هذا الحديث: "وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها. ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيء جهازه للرحيل. وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم.
قال تعالى حاكيًا عن مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39]"[13].
قال ابن عقيل رحمه الله: "ما تصفوا الأعمال والأحوال إلا بتقصير الآمال؛ فإن كل من عدّ ساعته التي هو فيها كمرض الموت حسنت أعماله، فصار عمره كله صافيًا"[14].
وقال ابن الجوزي رحمه الله: "من تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر"[15].
وقال ابن القيم رحمه الله: "صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته؛ فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله، وعلى محبته، وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أخرى، وعلومًا أخر، وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطنه أمه، فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة. وكما كان بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار - فهكذا نفسه وهو حجاب لقلبه عن الدار الآخرة؛ فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدار"[16].
وقال رحمه الله: "والمقصود أن صدق التأهب هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى الله، ومنازل السائرين إليه من اليقظة، والتوبة، والإنابة، والمحبة، والرجاء، والخشية، والتفويض، والتسليم، وسائر أعمال القلوب والجوارح؛ فمفتاح ذلك كله صدق التأهب، والاستعداد للقاء الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم، لا إله غيره، ولا رب سواه"[17].
32- النظر إلى من هو أعلى في الفضائل وإلى من هو أدنى في أمور الدنيا:
فهذا من مقومات الهمم، ومن أسباب النهوض للمعالي؛ فينبغي لمتطلب الكمالات أن ينظر إلى من فوقه في أمور الدين، والتقوى، والصلاح، والعلم، والعبادة، والكرم، ومحاسن الأخلاق، وسائر الفضائل.
وأن ينظر إلى من دونه في أمور الدنيا من منصب، أو جاه، أو مال، أو صحة، أو بناء، أو مركب أو نحو ذلك..
قيل في منثور الحكم: "وإذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهالن ولكن انظر إلى من فوقك من العلماء"[18].
وقال ابن العميد:
من شاء عيشًا هنيئًا يستفيد به *** فلينظرن إلى من فوقه أدبًا
في دينه ثم في دنياه إقبالًا *** ولينظرن إلى من دونه مالا[19]
فإذا أخذ المرء بهذا الأدب السني، وتوفر على اقتناء الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرضَ من منقبة إلا بأعلاها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها، واجتهد فيما يحسن سياسة نفسه عاجلًا، ويبقى لها الذكر الجميل آجلًا - لم يلبث أن يبلغ الغاية من التمام، ويرتقي إلى النهاية في الكمال، فيحوز السعادة الإنسانية، والرئاسة الحقيقية، ويبقى له حسن الثناء مؤبدًا، وجميل الذكر مخلدًا[20].
وإلى هذا المعنى العظيم يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « »، وزاد مسلم: « »[21].
قال ابن بطال رحمه الله: "هذا الحديث جامع لمعاني الخير؛ لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدًا فيها - إلا وجد من هو فوقه؛ فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله، فيكون أبدًا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالًا منه.
فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فُضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده"[22].
33- إدامة النظر في السيرة النبوية:
فالسيرة النبوية مليئة بالأحداث العظام، التي تبعث الهمة، وتوقظ العزمة.
فحياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها مليئة بالجهاد، والصبر، والمصابرة، وصدق العزيمة، وعلو الهمة.
ولا عجب في ذلك فهو سيد البشر، وخيرة الله من خلقه، وهو قدوة الناس أجمعين.
ولذلك لما بعثه الله؛ ليخرج العباد من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد أنشأ -صلوات الله وسلامه عليه- يؤس مبادئ العزة والكرامة، فاجتث من الأنفس شجرة الذلة من جذورها، وأعتق رقاب الأمة من الاستكانة؛ مخافة، تهوي بها إلى أدنى درجات الضعة والدناءة، ولم يألُ جهدًا في إجراء دم الشهامة وكبر الهمة في عروقها الميتة، حتى أخرجها في قالب الكمال، لا تتردد إلا على أبواب الفضائل، ولا تبسط ساعديها إلا لمهمات الأمور[23].
قال ابن حزم رحمه الله: "من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها - فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به بمنه آمين"[24].
34- مطالعة سير الأبطال والمصلحين والنابغين:
فإن مطالعة سيرهم، وقراءة تراجمهم، المحررة بأقلام تشرح نواحي العظمة فيهم، وتصف آثارهم، وتبين ما يخصه بهم عظماء الرجال من تقدير وتمجيد - كل ذلك مما يبعث الهمة، ويوقظ العزمة؛ ذلك أن حياة أولئك تتمثل أمام القارئ، وتوحي إليه بالاقتداء بهم، والسير على منوالهم.
ولم تخل أمة من أبطال لا يقرأ القارئ ترجمة حياتهم إلا ويشعر بأن روحًا جديدًا دب فيه، وحرّكه للإتيان بعظائم الأمور، وجلائل الأعمال.
وكثيرًا ما دفع الناس إلى العمل الجليل حكاية فرؤوها عن رجل عظيم، أو حادثة رويت عنه[25].
وأمتا الإسلامية -بحمد الله- غنية بالأبطال في شتى الميادين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والهوامش:
[1]- (الأصمعيات، ص: [199]).
[2]- (الأصمعيات، ص: [152]).
[3]- (المكثور: المغلوب).
[4]- (كنع: خضع).
[5]- (الأصمعيات، ص: [197]).
[6]- (انظر: رسائل الإصلاح، ص: [2/72]).
[7]- (العفو الاعتذار للرقام البصري، ص: [1/186]).
[8]- (انظر: رسائل الإصلاح، ص: [1/73]).
[9]- (رسائل الإصلاح، ص: [1/73]).
[10]- (رسائل الإصلاح، ص: [1/76]).
[11]- (لامية ابن الوردي، ص: [15]).
[12]- (أخرجه البخاري: [7/170]، والبيهقي: [3/369]، وابن المبارك في الزهد: [13]، وابن حبان: [698]).
[13]- (جامع العلوم والحكم؛ لابن رجب: [2/377]).
[14]- (كتاب الفنون؛ لابن عقيل: [2/546].
[15]- (صيد الخاطر: [1/36]).
[16]- (طريق الهجرتين وباب السعادتين؛ لابن القيم، ص: [297]).
[17]- (طريق الهجرتين، ص: [298]).
[18]- (أدب الدنيا والدين، ص: [72]).
[19]- (أدب الدنيا والدين، ص: [73]).
[20]- (انظر: تهذيب الأخلاق للجاحظ، ص: [60-61]).
[21]- (البخاري مع الفتح: [6490]، ومسلم: [8/213]).
[22]- (فتح الباري: [11/330]).
[23]- (انظر: حياة الأمة، ص: [29-30]، والسعادة العظمى، ص: [209]، وانظر العظمة، ص: [24-28[ لمحمد الخضر حسين).
[24]- (الأخلاق والسير، ص: [24]، وانظر تفصيل ذلك في صيد الخاطر: [2/ 410-413]، وانظر: الشمائل المحمدية للترمذي، ص: [186-210]، و[362-283]، تحقيق: محمد عفيف الزعبي، وانظر: الأنوار في شمائل النبي المختار؛ للبغوي، تحقيق: الشيخ إبراهيم اليعقوبي [1/ 161-358]، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه؛ لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، ص: [13-98]، ودلائل النبوة، لأبي نعيم الأصبهاني، ص: [551-656]، وإحياء علوم الدين: [2/ 357-387]، وشمائل الرسول ودلائل نبوته؛ لابن كثير [1/ 73-152]، ومحمد رسول الله وخاتم النبيين لمحمد الخضر حسين).
[25]- (انظر: رسائل الإصلاح [1/81]، والأخلاق، ص: [65]).
- التصنيف: