الهمة العالية - (34) أسباب اكتساب الهمة العالية (17)

منذ 2014-11-05

الوقت رأس مال الإنسان، وإن ساعات العمر هي أنفس ما عني بحفظه، فنحن نعيش في زمن محدود، ليل ونهار يتعاقبان بانتظام، ليس يطغى أحدهما على الآخر، وحياة مقسمة تقسيماً محدوداً، صباً فشباب، فكهولة، فشيخوخة، ولكل قسم عمل خاص لا يليق أن يعمل في غيره، كالزرع إذا فات أوانه لم يصح أن يزرع في غيره، ثم إن هذه الحياة محدودة؛ فإذا جاء الأجل فلا مفر من الموت.

46- انتهاز الفرص:
فإن الفرص ثمينة، وإن فواتها لا يعوض، وإن انتهازها لدليل الحزم، وعنوان العقل والجد.
"ومهما حفظ الإنسان من الحكم، وكانت رغباته صالح ة_ فلن تتحسن أخلاقه وتقوى إلاَّ إذا انتهز كل فرصة تسنح له" [1].
قال البارودي:    

بادر الفرصة واحذر فوتها *** فبلوغ العز في نيل الفرص
فابتدر مسعاك واعلم أن من *** بادر الصيد مع الفجر قنص[2]


47- اغتنام الأوقات:
فإن الوقت رأس مال الإنسان، وإن ساعات العمر هي أنفس ما عني بحفظه.
فنحن نعيش في زمن محدود، ليل ونهار يتعاقبان بانتظام، ليس يطغى أحدهما على الآخر، وحياة مقسمة تقسيماً محدوداً، صباً فشباب، فكهولة، فشيخوخة، ولكل قسم عمل خاص لا يليق أن يعمل في غيره، كالزرع إذا فات أوانه لم يصح أن يزرع في غيره، ثم إن هذه الحياة محدودة؛ فإذا جاء الأجل فلا مفر من الموت.

وما فات من الزمن لا يعود؛ فالصبا إذا فات فات أبداً، والشباب إذا مر مر أبداً، والزمن المفقود لا يعود أبداً.
ثم إن الزمن هو المادة الخامة للإنسان كالخشب الخام في يد النجار، والحديد الخام في يد الحداد، فكل يستطيع أن يصوغ من زمنه -بتوفيق اللَّه- حياة طيبة مليئة بالجد وجلائل الأعمال، كما أن الإنسان يستطيع أن يصوغ من زمنه حياة سيئة، مليئة بالكسل، والخمول وسيىءء الأعمال [3]، فكل ساعة من ساعات عمرك قابلة لأن تضع فيه حجراً يزداد به صرح مجدك ارتفاعاً، ويقطع به قومك في السعادة باعاً أو ذراعاً.

فإن كنت حريصاً على أن يكون لك المجد الأسمى، ولقومك السعادة العظمى فدع الراحة جانباً، واجعل بينك وبين اللهو حاجباً؛ فالحكيم الخبير من يقدر الوقت حق قدره، ولا يتخذه وعاءً لأبخس الأشياء، وأسخف الكلام، ويعلم أنه من أجل ما يصان عن الإهمال والإضاعة، ويقصره على المساعي الحميدة التي ترضي اللَّه، وتنفع الناس، وإذا أرجعنا البصر في تاريخ النوابغ الذين رفعوا للحكمة لواء وجدناهم يبخلون بأوقاتهم أن يصرفوا شيئاً منها في غير درس، أو بحث، أو تحرير [4].

قال ابن عقيل الحنبلي: "إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره" [5]، وقال: "وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ؛ توفراً على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيها" [6]، ولهذا خلّف آثاراً عظيمة؛ فله كتاب الفنون الذي قيل عنه: "إنه بلغ ثمانمائة مجلدة" [7].

فإذا كان الزمن بتلك المكانة والمنزلة فأجدر بالعاقل ألا ينفق ساعات عمره إلاَّ بما يعود عليه وعلى أمته بالنفع، وأن يحذر كل الحذر من إضاعته بما لا ينفع أو بما يضر، فإنه إن أخل بذلك فاشتغل بما لا ينفع عن الذي ينفع فإنه سيندم أيما ندم.

قال الإمام الشوكاني: "فإن من أرسل عنان شبابه في البطالات، وحل رباط نفسه فأجراها في ميادين اللذات، أدرك من اللذة الجسمانية من ذلك بحسب ما يتفق له منها، ولا سيما إذا كان ذا مال وجمال، ولكنها تنقضي عنه اللذة، وتفارقه هذه الحلاوة إذا تكامل عقله، ورجح فهمه، وقوي فكره؛ فإنه لا يدري عند ذلك ما يدهمه من المرارات التي منها الندامة على ما اقترفه من معاصي اللَّه، ثم الحسرة على ما فوته من العمر في غير طائل، ثم على ما أنفقه من المال في غير حله، ولم يفز من الجميع بشيء، ولا ظفر من الكل بطائل.

وتزداد حسرته، وتتعاظم كربته إذا قاس نفسه بنفس من اشتغل بالمعالي من أترابه في مقتبل شبابه؛ فإنه لا يزال عند موازنة ذاته بذاته، وصفاته بصفاته في حسرات متجددة، وزفرات متصاعدة، ولا سيما إذا كان بيته في العلم طويل الدعائم، وسلفه من المتأهلين لمعالي المكارم، فإنه حينئذ تذهب عنه سكرة البطالة، وتنقشع عنه عماية الجهالة بكروب طويلة، وهموم ثقيلة، وقد فات ما فات، وحيل بين العَيْر والنَزَوَان [8]، وحال الجَرِيْضُ دون القريض [9] وفي الصيف ضَيَّعتِ اللبن [10]" [11].

هذا ومما يعين على اغتنام الأوقات ما يلي:
أ- أن نستحضر قيمة الزمن، وندرك بأنه محدود: فإذا كان الأمر كذلك، وكان لا يمكن أن يمد في الزمن أو يقصر، وكانت قيمته في حسن إنفاقه وجب أن نحافظ عليه، وأن نستعمله أحسن استعمال.

قال ابن الجوزي: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل" [12]. وقال الرافعي: "إن يوماً باقياً من العمر هو للمؤمن عمر ما ينبغي أن يستهان به" [13]. والعرب تقول في أمثالها: "إسْرِ وقمرٌ لك"، أي اغتنم ضوء القمر ما دام طالعاً فسر فيه [14].
ومما ينسب للشافعي قوله:   

إذا هجع النوام أسبلت عبرتي *** وأنشدت بيتاً وهو من ألطف الشعرِ
أليس من الخسران أن ليالياً *** تمر بلا علم وتحسب من عمري[15]


وقال الإمام الشاطبي:    

ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت *** سحائبها بالدمع ديماً وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها *** فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا[16]


ب- تحديد الهدف: فما أتعب من يمشي في الطريق بلا هدى، فينتقل من شارع لآخر، ومن حانوت إلى حانوت دون أن يكون له هدف محدد، وما أضيع زمن قارئ لا يحدد هدفه، ولا يجيد فن القراءة، فتراه يقرأ ما يقع تحت يده؛ لقتل الوقت ليس إلاَّ، دون أن يكون له هدف محدد، أو غرض معين، كدراسة مسألة خاصة، أو بحث موضوع معين، أو نحو ذلك مما يخدم غرضه، وينمي معارفه، وما حال هؤلاء إلاَّ كحال من يتعاطى المخدر، ليغيب به عن الدنيا، أو يسبح في عالم الخيالات والأوهام، فالقراءة لا توزن بكثرتها، ولا بطول وقتها، وإنما توزن بدقتها وقيمتها..

ومما يؤسف عليه في هذا الصدد أن كثيراً من الناس يقرؤون كل ما تصل إليه أيديهم حسبما اتفق، فيقرؤون الجرائد السيارة، والمجلات الرخيصة، والقصص الخفيفة الماجنة ونحوها، ويعتقدون أنها كافية لغذاء عقولهم، وهي ليست إلاَّ مخدراً للعقل، ومنبهاً للغرائز الجنسية؛ فتلك القراءة لا تفيد علماً، ولا تجلب متعة، ولم تخلق القراءة لمثل هذا، وإنما خلقت للدرس المفيد، والاستمتاع الصحيح؛ فالقراءة الصحيحة قراءة حدد غرضها وغاياتها، فيعرف القارىء ما يقرأ، ولماذا يقرأ، وكيف يقرأ قراءة يشعر معها أن موقفه مما يقرأ كموقف الصديق؛ فلينظر إلى من يقرأ كما ينظر إلى من يصادق [17].

فتحديد الهدف يوفر الشيء الكثير من الزمن، ويجعل الإنسان يسير في هذه الحياة على هدى؛ فكلما صادفته أمور عرف كيف ينتخب منها ما يغذي غرضه، ويتجنب ما لا يتفق مع مراده، إن الذين لا يحددون أهدافهم، ويدعون الزمن يمر عليهم كما يمر على الجماد قلما يصدر عنهم خير كبير، أو يأتون بعمل عظيم، والإنسان بلا هدف كالسفينة التي تسير في البحر بلا مقصد، تتلاعب بها الأمواج، وتتقاذفها الأثباج.

ومما يلاحظ في هذا الشأن أن أكثر الناس عملاً أوسعهم زمناً، ذلك لأنهم يحددون أهدافهم، ويوجهون أعمالهم لنيلها، ولا يصرفون أوقاتهم في التردد، والاختيار، والتخبط، وكلما زادت قيمة الهدف زادت إثارته لطاقة صاحبه، وكلما زاد سمو الهدف زاد سمو صاحبه [18]، فحدد هدفك، وسر إليه، ولا عليك بعد ذلك ما دمت كل يوم تخطو إليه خطواً جديداً؛ فستصل إليه بإذن اللَّه ولو كان صعب المنال، بعيد المرتقى.

ج- أن يجد الإنسان ويخلص في سبيل الوصول لهدفه: فلا يكفي مجرد تحديد الهدف، بل لا بد معه من الجد والإخلاص حتى يصل إلى ما يريد بأقرب وقت.

د- الدقة في المواعيد: فهذا مما يعين على اغتنام الوقت، وإتقان العمل؛ فتأخر دقائق عن موعد البدء المحدد معناه ضياع دقائق من وقت العمل، وذلك يؤدي إلى إحدى نتيجتين: إما الإسراع في العمل وعدم الدقة فيه؛ لتعويض الزمن الفائت، وإما التعدي على أوقات خصصت لواجبات أخرى.

هـ- الحذر من التأجيل: فالعمل المؤجل قلما يعمل، وإذا عمل فقلما يعمل بإتقان كما لو كان في وقته.
قال ابن المقفع: "إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الروح في مدافعتها بالروغان منها؛ فإنه لا راحة لك إلاَّ في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، والضجر هو الذي يراكمها عليك" [19].

و- حسن الاستعمال لأوقات الفراغ: وليس معنى ذلك أن نعمل باستمرار، وألا نترك وقتاً للراحة والاستجمام.
وإنما يعني ذلك أن نستعمل أوقات الراحة والفراغ استعمالاً يجعلنا أقدر على العمل، فإذا صرفنا وقت الفراغ في كسل وخمول لم ننتفع به، ولم يفدنا في العمل، وإذا صرفناه فيما يفيد ولو في لعب بريء وحركة للجسم، وإجمام يبعث على النشاط أفادنا ذلك في عملنا، فكيف إذا استعمل في قراءة، أو كتابة، أو نحو ذلك مما هو أكثر فائدة؟

إن استعمال أوقات الفراغ استعمالا حسناً من أهم مسائل الحياة التي يحسن العناية بها، والتفكير في شأنها؛ فإن أكثر أعمارنا تذهب سدى، لا في عمل دنيا ولا آخرة؛ لأنا لا نعرف كيف نستعمل أوقات الفراغ كما ينبغي، فالأطفال يقضونها في اللعب في الشوارع، أو في مشاهدة التلفاز ونحو ذلك، والشبان والشيوخ يقضونها في منتدياتهم التي يعمرها القيل والقال، وكثرة الجدال، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا فائدة منها سوى قتل الوقت.

وبالجملة فالعمل الكثير لا يجهد بقدر ما تجهد الفوضى والسير على غير هدى؛ فاليوم المنظم، والمنهاج المدروس للشواغل المتتابعة، والمثابرة دون تباطؤ أو عجلة، لا ينتج تعباً مفرطاً، ولكن الانحطاط في القوى، والخمود والهمود يأتيان -في الغالب- من الاستعمال الفوضوي لأوقات الفراغ، ولهذا ينبغي ألا تكون أوقات الفراغ طاغية على أوقات العمل، وألا تكون أوقات الفراغ هي صميم الحياة وأوقات العمل على هامشها، بل ينبغي أكثر من ذلك، أن تكون أوقات الفراغ خاضعة لحكم العقل كأوقات العمل؛ فإننا في العمل نعمل لغاية؛ فينبغي أن نصرف أوقات الفراغ لغاية كذلك، إما لفائدة دنيوية أو أخروية.

أما أن تكون الغاية هي قتل الوقت فليست غاية مشروعة، لأن الوقت هو الحياة؛ فقتل الوقت قتل للحياة؛ فالذين يصرفون أوقاتهم في نرد أو شطرنج، أو لعب ورق أو نحو ذلك.. لا يعملون لغاية، والذين يتسكعون في المقاهي، والطرقات ونحوها لا يطلبون إلاَّ قتل الوقت وكأنه عدو من أعدائهم، فإذا كان الأمر كذلك فاجعل شعارك دائمًا أن تسائل نفسك: ماذا عملت في وقت فراغك؟ هل كسبت علماً، أو صحة، أو مالاً؟ وهل خضع وقت فراغك لحكم عقلك، فكان لك غاية محدودة صرفت فيها زمنك؟ إن كان الأمر كذلك فقد نجحت، وإلا فحاول حتى تنجح، فقليل من الزمن يخصص كل يوم لشيء معين يغير مجرى الحياة، ويجعلها أقوم مما تتصور، وأرقى مما تتخيل.

ز- أن نعرف كيف نبتدئ العمل: وهذه المسألة من أشق المسائل على الإنسان؛ فكم من الزمن ما يذهب سدى في التفكير في ذلك.. فترى الطالب -على سبيل المثال- يريد مذاكرة دروسه، فيفكر بم يبدأ، فيرى أن يبدأ بالكتاب الفلاني، أو المادة الفلانية، ثم يستصعبها، فيشرع في غيرها وهكذا، فهو يصرف زمناً طويلاً قبل أن يبدأ بجد.

أضف إلى ذلك أن بدء الشيء صعب عادة؛ لقلة المران والممارسة، أو لأن الإنسان ينتقل بذلك من راحة لذيذة إلى عمل شاق، وعلاج هذا الأمر بأمور عديدة أهمها أن يستعين باللَّه جل وعلا وأن يستشير، ويستخير، إن استدعى الأمر ذلك، ثم يفكر قبل العمل في أولى الأشياء بالبدء، ويدرس وجوه الترجيح، ثم يرتب ما يليه، وهكذا.. ثم بعد ذلك يعزم عزماً قوياً لا يشوبه تردد، ولا يسمح لنفسه بتغيير ما عزم عليه مهما صادفه من الصعوبات.. "فمن صرامة العزم أن تفرغ فؤادك من كل داعية شأنها أن تلحق بعزمك وهناً، أو تصرف وجهك عنه صفحاً" [20].

أما من يرى أن البدء صعب عليه، ويرى أن نفسه منصرفة عن العمل- فمما يفيده في ذلك أن يقرأ فصلاً من كتاب يشجعه على العمل، أو قطعة من الشعر تثير ميله إلى الجد، وتعيد إليه نشاطه، أو أن يستحضر في ذهنه نتائج الجد والكسل، أو أن يتذكر أشخاصاً جدوا فنبغوا في الحياة وهكذا.. فإذا بدأ فإنه قد قطع شوطاً بعيداً للنجاح، لأن هذا البدأ سيحيي روحه، ويبعث همته، ويقوده إلى المزيد من الجد، ثم بعد ذلك عليه أن يستمر، ويواصل المسيرة؛ فالعمل وإن كان صعباً فإنه يصبح سهلاً من طول المثابرة والاستمرار؛ فإن استمرارك في تنفيذ عزمك، ومواصلة مسيرتك يكسبك القوة والغلبة على ميولك السابقة، بل سترى أن عادة امتلاك النفس قد تأصلت فيك، ومما يشجعه على ذلك أن يكون العمل الذي يختاره عملاً يناسبه، ويلائم ميوله؛ حتى يشعر بفائدته منه، وميله إليه، واستعداده له؛ فإن أكثر أسباب الملل ترجع إلى سوء اختيار العمل [21].

ز- قصر النظر على العمل الحاضر: فمما يعين على اغتنام الأوقات وإنجاز الأعمال- أن يقصر المرء نظره على عمله الحاضر الذي هو بصدده، فيصرف له همته، ويقبل عليه بكل قلبه، ويجمع عليه ظاهره وباطنه، ويتجنب كل ما يشتته ويصده عنه، فإن هو فعل ذلك أدرك بغيته، وتم له مراده، وإن تشوفت نفسه إلى أعمال أخرى لم يحن بعد وقتها شغل بها عن عمله الحاضر، ففترت همته، وانحلت عزيمته، وضاع عليه وقته، وقل إتقانه لعمله، وربما تركه إلى غير رجعة، فإذا حان وقت العمل الذي يلي عمله السابق لم يكن مستعداً له، ولم يقبل عليه إلاَّ بضعف همة، وقلة نشاط.

وربما كان العمل الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله، فيفوت الأول والثاني، بسبب تفرق الهمة، وتشتت الذهن، بخلاف ما إذا جمع قلبه على عمله الحاضر، ثم تدرج فيه شيئاً فشيئاً حتى يكمله، فإذا حان وقت العمل الذي يليه أقبل عليه بهمة ونشاط، وتلقاه بشوق وعزيمة، فيكون دائماً متجدداً مستعداً، وهذه القاعدة الجليلة قد أشار إليها القرآن الكريم، ودعا إليها في مواضع متعددة، ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77]، فلقد كانوا يتمنون القتال مع أنهم مأمورون بكف الأيدي، فلما لم يقبلوا موعظة اللَّه ضعفوا، فلما جاءهم العمل الثاني ضعفوا أشد الضعف [22].

ويتجلى هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66]، وكذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ . طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:20-21].

قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي في تفسير هذه الآية: "{فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}: أي فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليه م، ويجمعوا عليه هممهم، ولا يطلبوا ماهو شاق عليه م، وليفرحوا بعافية اللَّه تعالى وعفوه: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} أي جاءهم أمر جد، وأمر حتم {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} في هذه الحال بالاستعانة به، وبذل الجهد في امتثاله، {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} من حالهم الأولى، وذلك من وجوه:

منها: أن العبد ناقص من كل وجه، لا قدرة له إلاَّ إن أعانه اللَّه، فلا يطلب زيادة على ماهو قائم بصدده.
ومنها: أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ضعف عن العمل بوظيفة وقته الحاضر، وبوظيفة المستقبل، أما الحال فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غره، والعمل تبع للهمة، وأما المستقبل فإنه لا يجئ حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه.

ومنها: أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة مع كسله عن عمل الوقت الحاضر، شبيه بالمتألي الذي يجزم بقدرته على ما يستقبل من أموره؛ فأحرى به أن يخذل ولا يقوم بما هم به، وتوعد نفسه عليه؛ فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكره ونشاطه على وقته الحاضر، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته، ثم كلما جاء وقت استقبله بجد ونشاط، وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة، مستعيناص بربه في ذلك، فهذا أحرى بالتوفيق والتسديد في جميع أموره" [23].

بل إن هذه القاعدة مما يتفق عليها أهل التجارب والنظر.
يقول الأديب الإنجليزي توماس كارليل: "ليس علينا أن نتطلع إلى هدف يلوح لنا باهتاً على البعد، وإنما علينا أن نجز ما بين أيدينا من عمل واضح بين" [24]، ثم إن هذه القاعدة لا تعني أن ندع القيام بالمشروع، وأن نترك التخطيط للمستقبل، بل إنها من أعظم ما يعين على ذلك؛ فإنجاز العمل الحاضر يؤهلك ويدفعك لإنجاز ما تستقبله كما مر.

يقول الدكتور الكندي أوسلر: "إن أفضل الطرق للاستعداد للغد هي أن نركز كل ذكائنا وحماسنا في إنهاء عمل اليوم على أحسن ما يكون؛ هذا هو الطريق الوحيد الذي نستعد به للغد" [25].

ط- ألا نحتقر شيئاً ننجزه من العمل: فمما يعين على اغتنام الأوقات أن نعمرها بالعمل النافع ولو كان قليلاً، وألا نحتقر ما نبذله من جهد ولو كان يسيراً، بخلاف ما يوجد عند بعض الناس؛ فإما أن يقوم بأعمال كبيرة أو أن يدع العمل جملة؛ ذلك أن للنفوس إقبالاً وإدباراً، وكثير من الجادين يغتنم وقته حال الإقبال دون حال الإدبار؛ فإذا أقبلت نفسه، وهبَّتَ رياحُه قام بأعمال جليلة في مدة قصيرة، وإذا أدبرت نفسه، وسكنت ريحه دبَّ الفتور إليه، وترك العمل بالكلية، والذي تقتضيه الحكمة أن يغتنم المرء وقته حال إقبال نفسه وحال إدبارها؛ فإذا أقبلت ضاعف جهده، واستفرغ ما في وسعه، وإذا أدبرت وانقبضت فلا يحسن به أن يدع العمل البتة، بل يحسن به أن ينجز أي عمل ولو كان يسيراً، وألا يحتقر ما يقدم ولو كان قليلاً.

والعرب تقول: "إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون" [26].
فالأخذ بهذه الطريقة يفيد كثيراً؛ حيث يبعث المرء لاغتنام وقته، ويهيؤه لاستعادة نشاطه وقدرته، ويريحه من تراكم الأعمال عليه، قال ابن حزم: "لا تحقر شيئاً من عمل غد أن تحققه بأن تعجله اليوم وإن قل؛ فإن قليل الأعمال يجتمع كثيرها، وربما أعجز أمرها عند ذلك فيبطل الكل" [27]، وقال: "لا تحقر شيئاً مما ترجو به تثقيل ميزانك يوم البعث أن تعجله الآن وإن قل؛ فإنه يحط عنك كثيراً لو اجتمع عليك لقذف بك في النار" [28].

ي- اختيار المكان المناسب: فمما يعين على إنجاز الأعمال وخصوصاً ما كان منها يحتاج إلى تركيز ذهني أن يختار المرء مكاناً ملائماً، يسوده الهدوء، ويخلو من كثرة المناظر التي تشغل، والمغريات التي تشتت وتصد عن البغية؛ فذلك أصفى للذهن، وأجمع للفكر، وأشحذ للقريحة، وأحفظ للوقت، ولا يعني ذلك ألا يعمل الإنسان إلاَّ في مكان هادئ؛ فذلك قد لا يتأتى في كل وقت؛ فهل يدع الإنسان العمل بالكلية؛ ويترك الوقت يمر بلا فائدة؛ بحجة أن المكان غير ملائم؟ لا، بل يحسن بالعاقل إذا لم يتهيأ له المكان المناسب أن يغتنم الوقت بما يعود عليه بالنفع ولو قل، فيغتنمه بقراءة القرآن، أو اللهج بذكر اللَّه، أو باسترجاع بعض المحفوظات، أو بتدوين بعض الخواطر والأفكار، وهكذا...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ـ الأخلاق ص38 .
[2] ـ ديوان البارودي ص293 .
[3] ـ انظر : الأخلاق ص234، 236.
[4] ـ انظر: رسائل الإصلاح 1/584، والسعادة العظمى ص66.
[5] ـ ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/145-146 .
[6] ـ ذيل طبقات الحنابلة 1/146 .
[7] ـ انظر : ذيل طبقات الحنابلة 1/156 .
[8] ـ النزوان : الوثبان، ونزوان العير : وثوبه على أنثاه، وأول من قاله صخر بن عمرو السلمي أخو الخنساء:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه وقد حيل بين العير والنزوان، انظر : لسان العرب 15/319 .

[9] ـ قولهم حال الجريض دون القريض، قيل : الجريض : الغصة، والقريض: الجرة. وقيل الجريض : الغصص، والقريض: الشعر، وقال الرياشي : القريض والجريض يحدثان بالإنسان عند الموت، انظر لسان العرب 7/130.

[10] ـ الصيف ضيعت اللبن : هذا مثل مشهور عند العرب، وكذلك قولهم : حيل بين العير والنزوان، وقولهم حال الجريض دون القريض.
وهذه الأمثال الثلاثة تضرب لمن يضيع الأمر، ثم يريد استدراكه بعد فوات الأوان، وتقال: عند كل أمر كان مقدوراً عليه فحيل دونه.

[11] ـ أدب الطلب ص135، وانظر تذكرة السامع والمتكلم ص70-71 ففيه كلام جميل حول هذا المعنى .
[12] ـ صيد الخاطر 1/46.
[13] ـ وحي القلم 1/235.
[14] ـ الأمثال لأبي عبيد ص257.
[15] ـ غذاء الألباب ص2/44 .
[16] ـ متن الشاطبية للإمام الشاطبي ص7.
[17] ـ انظر فيض الخاطر 3/69، 5/190_191.
[18] ـ انظر قوة الإرادة ص17-20.
[19] ـ الأدب الصغير والأدب الكبير ص152.
[20] ـ رسائل الإصلاح 1/69.
[21] ـ انظر الأخلاق لأمين ص234_239، ففيه تفصيل رائع، وفيض الخاطر 3/69-70، وانظر طريق النجاح د. بول جاغو، تلخيص بهيج شعبان ص5، 29-31.
[22] ـ انظر القواعد الحسان لتفسير القرآن للشيخ ابن سعدي، القاعدة الحادية والأربعون ص136-139.
[23] ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/33-34 .
[24] ـ دفع القلق وابدأ الحياة، ديل كارنيجي، ترجمة عبد المنعم الزيادي ص24-25.
[25] ـ دع القلق ص26.
[26] ـ الأمثال لأبي عبيد ص237.
[27] ـ الأخلاق والسير ص27-28.
[28] ـ الأخلاق والسير ص28. 

المصدر: كتاب: الهمة العالية

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

  • 6
  • 1
  • 21,694
المقال السابق
(33) أسباب اكتساب الهمة العالية (16)
المقال التالي
(35) أسباب اكتساب الهمة العالية (18)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً