الهمة العالية - (41) نماذج رائعة للهمة العالية- شيخ الإسلام ابن تيمية

منذ 2014-11-07

أما عن شجاعته، قوة قلبه، ورباطة جأشه فحدث ولا حرج. قال ابن القيم: "وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسَرِّهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة ويقيناً وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبواباً في دار العمل، فآتاهم من روحها، ونسيمها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها".

هو تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني،ولد ستة 661هـ، وتوفي سنة 728هـ.

ذلك الإمام الحبر، والعلامة البحر، الذي دنت له قطوف العلوم، ودانت له نواصي الحكمة، والذي طبقت شهرته الخافقين، وسار بحديثه الركبان، فهو أُمَّةٌ في الخير، وقدوة في الهدى والتقى.

والحديث عن جوانب النبوغ والألمعية في سيرة هذا الإمام يطول، والمقام لا يتسع للإسهاب، والإطناب، لأن جوانب العظمة في شخصيته كثيرة جداً يصعب حصرها والوقوف عليها.

علمه: 

فإذا أتيت إلى العلم وجدت العباب الزاخر، والبحر المتلاطم، وذلك لما وهبه الله من سعة العلم وغزارته. قال الحافظ البزار: "أما غزارة علومه فمنها ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد، واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنه فيه الغاية التي ينتهي إليها والنهاية التي يُعَوّل عليها.

ولقد كان إذا قُرئ في مجلسه آيات من القرآن يشرع في تفسيرها فينقضي المجلس بجملته، والدرس برُمَّتِه، وهو في تفسير بعض آية منها. وكان مجلسه مُقَدَّراً بقدر ربع النهار، يفعل ذلك بديهة من غير أن يكون له قارئ معين يقرأ له شيئاً معيناً يبيته، ليستعد لتفسيره. وكان غالباً لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولاً مضى الزمن المعتاد لأورد أشياء أخر في معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظراً في مصالح الحاضرين. ولقد أملى في تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الصمد:1] مجلداً كبيراً، وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] نحو خمسين وثلاثين كراساً"[1].

ثم قال البزار: "وأما معرفته، وبصره بسنة رسول الله وأقواله، وأفعاله، وقضاياه، ووقائعه، وغزواته، ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، وبقية المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في أقوالهم، وأفعالهم، وفتاويهم، وأحوالهم، وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خصوا به من بين الأمة فإنه كان من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضاراً لما يريده منه، فإنه قل أن ذكر حديثاً في مصنف أو فتوى، أو استشهد به، أو يريد منه، فإنه قل أن ذكر حديثاً في مصنف أو فتوى، أو استشهد به، أو استدل به إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو، ومن أي قسم من الصحيح أو الحسن، أو غيرهما، وذكر اسم راوية من الصحابة. وقل أن يسأل عن أثر إلا وبين في الحال حاله، وحال أمره وذاكره"[2].

وقال أيضاً: "ومن أعجب الأشياء في ذلك أنه في محنته الأولى بمصر لما أخذ وسجن، وحيل بينه وبين كتبه صنف عدة كتب صغاراً وكباراً، وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار، وأقوال العلماء، وأسماء المحدثين، والمؤلفين، ومؤلفاتهم، وعزا كل شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم، وذكر أسماء الكتب التي ذكر فيها، وأي موضع هو منها. كل ذلك بديهة من حفظه، لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه. ونقبت واختبرت، واعتبرت فلم يوجد فيها _ بحمد الله _ خلل ولا تغيير"[3].

قال: "حكي من يوثق بنقله أنه كان يوماً بمجلس، ومحدث يقرأ عليه بعض الكتب الحديثية، وكان سريع القراءة، فعارضه الشيخ في اسم رجل عن سند الحديث، وقد ذكره القارئ بسرعة، فذكر الشيخ أن اسمه فلان بخلاف ما قرأ، فاعتبروه فوجدوه كما قال الشيخ"[4].

ولقد سئل يوماً عن الحديث «لعن الله المحلل والمحلل له»[5] فلم يزل يورد فيه وعليه حتى بلغ كلامه فيه مجلداً كبيراً[6].

أما مؤلفاته ومصنفاته وفتاويه فيقصر دونها العد والإحصاء، والبحث والاستقصاء. ولهذا قل أن تجد باحثاً في عصرنا هذا إلا ويعول على ابن تيمية، ويأخذ بأقواله، سواء كان ذلك في العقائد أو الفقه، أو الحديث، أو الفلسفة، أو المنطق، أو التربية، أو السلوك، أو السياسة، أو الاقتصاد أو غيرها.

تعبده: 

أما تعبده فكان عجباً من العجاب، وذلك لما آتاه الله من جلد عجيب، ورغبة ومحبة للعبادة. قال تلميذه ابن القيم: "وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال: "هذه غدوتي، ولو لم أتغد سقطت قوتي"، أو كلاماً قريباً من هذا. وقال لي مرة: "لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها، لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر"، أو كلاماً هذا معناه"[7].

وقال البزار: "أما عن تعبده فإنه قل أن سمع بمثله لأنه قد قطع جُلَّ وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى ما يراد له من أهل، ولا من مال. وكان في ليلة متفرداً عن الناس كلهم، خالياً بربه عز وجل ضارعاً مواظباً على تلاوة القرآن العظيم، مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية. وكان إذا ذهب الليل، وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنتها قبل إتيانه إليهم. وكان إذا أحرم بالصلاة تكاد تنخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام. فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه، حتى يميله يمنة ويسرة"[8].

سمته وهديه وخلقه: 

أما عن سمته وهديه وحسن خلقه فكان ضرباً من الخيال. قال العلامة عماد الدين الواسطي: "ما رأينا في عصرنا هذا من تتجلى النبوة المحمدية وسننها في أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة"[9].

وقال ابن القيم عن حسن خلقه، وعفوه وإحسانه إلى من أساء إليه: "وما رأيت أحداً أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام قدس الله روحه".

وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: "وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم، وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي، واسترجع قم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزاهم، وقال: "إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه"، ونحو هذا الكلام، فسروا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه"[10].

وقال البزار عن زهده: "ولقد اتفق كل من رآه خصوصاً من أطال ملازمته أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا، حتى لقد صار ذلك مشهوراً، بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها. بل لو سئل عامي من أهل بلد بعيد من الشيخ: من كان أزهد أهل هذا العصر، وأكملهم في رفض فضول الدنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية رحمة الله عليه"[11].

وقال عن تواضعه: "أما تواضعه فما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير، والصغير، والجليل، والحقير، والغني الصالح، والفقير. وكان يدني الفقير الصالح، ويكرمه، ويؤنسه، ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء، حتى إنه ربما خدمه بنفسه، وأعانه بحمل حاجته، جبراً لقلبه، وتقرباً بذلك إلى ربه.

وكان لا يسأم ممن يستفتيه، أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه، ولين عريكة، ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، حراً أو عبداً، عالماً أو عامياً، حاضراً أو بادياً. ولا يجبهه، ولا يحرجه، ولا ينفره بكلام يوحشه، بل يجيبه، ويفهمه ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط" [12].

وقال عن كرمه: "كان مجبولاً على الكرم، لا يتطبعه ولا يتصنعه، بل هو له سجية، وقد ذكرت فيما تقدم أنه ما شد على دينار ولا درهم قط، بل كان مهما قدر على شيء من ذلك يجود به كله. وكان لا يرد من يسأله شيئاً يقدر عليه من دراهم ولا دنانير، ولا ثياب، ولا كتب ولا غير ذلك بل ربما كان يسأله بعض الفقراء شيئاً من النفقة، فإن كان حينئذ متعذراً لا يدعه يذهب بلا شيء بل كان يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إليه، وكان ذلك المشهور عند الناس من حاله"[13].

وقال: "وحدثني من أثق به: أن الشيخ كان لا يرد أحداً يسأله شيئاً كتبه، بل يأمره أن يأخذ هو بنفسه ما يشاء منها. وأخبرنا أنه جاء يوماً إنسان يسأل كتاباً ينتفع به، فأمره أن يأخذ كتاباً يختاره، فرأى ذلك الرجل بين كتب الشيخ مصحفاً قد اشترى بدراهم كثيرة، فأخذه ومضى، فلام بعض الجماعة الشيخ في ذلك، فقال: "أيحسن بي أن أمنعه بعدما سأله؟ دعه فلينتفع به". وكان الشيخ ينكر إنكاراً شديداً على من يسأل شيئاً من كتب العلم ويمنعها من السائل، ويقول: ما ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه"[14].

شجاعته: 

أما عن شجاعته، قوة قلبه، ورباطة جأشه فحدث ولا حرج. قال ابن القيم: "وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسَرِّهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة ويقيناً وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبواباً في دار العمل، فآتاهم من روحها، ونسيمها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها"[15].

وقال البزار: "كان من أشجع الناس، وأقواهم قلباً. ما رأيت أحداً أثبت جأشاً منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم. وأخبَرَ غيرُ واحدٍ أن الشيخ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم، وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم هلعاً أو رِقَّةً أو جبانةً شَجَّعَه، وثبته، وبشره، ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبين له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة.

وكان إذا ركب الخيل يتَحَنَّك[16]، ويحول في العدو كأعظم الشجعان ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبر تكبيراً أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموتوحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أموراً عظيمة يعجز الواصف عن وصفها. قالوا: "ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله، ومشورته وحسن نظره"[17].

هذه بعض ملامح النبوغ والألمعية من سيرة هذا البطل المجاهد، ومن أراد مزيداً من التفصيل فليرجع إلى الكتب التي فصلت الحديث عن سيرته[18].
------------------

[1] (الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية للبزار ص[22-23]).
[2] (الأعلام العلية ص[23-24]).
[3] (الأعلام العلية ص24]).
[4] (الأعلام العلية ص[32]).
[5] (أخرجه أحمد [1/450]، وأبو يعلى في مسنده [8/468] [5054]، والبغوي في شرح السنة [9/100] [2293] من طريق عبيدالله بن عمر الرقي عن عبدالكريم الجزري، عن أبي الواصل عن عبدالله بن مسعود.
وأخرجه أحمد أيضاً [1/448و462]، والنسائي [6/149]، والدارمي [2/554]، والترمذي [3/428] [1120]، وابن أبي شيبة في المصنف [4/295]، والبيهقي في سننه [7/208]، من طريق سفيان الثوري، عن أبي قيس عبدالرحمن بن ثروان الأودي، عن هزيل بن شرحبيل الأودي عن عبدالله به.

قال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال الحافظ ابن حجر: "في تخريج الهداية [2/73]، رواته ثقات"، وقال في تلخيص الحبير [3/170]: "صححه ابن القطان"، وابن دقيق العيد على شرط البخاري، وصححه ابن الجوزي في العلل المتناهية [2/159] [1073] والذهبي في الكبير ص[103]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى [32/61]: "قد ثبت عن النبي أنه قال: «لعن الله المحلل والمحلل له»"، وقال في موضع آخر من الفتاوى [32/93، 153]: "وقد صح عن النبي أن قال: ..." فذكره.
[6] (الأعلام العلية ص[33]).
[7] (الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم ص[63]).
[8] (الأعلام العلية ص[38]).
[9] (جلاء العينين للألوسي ص[8]).
[10] (مدارج السالكين [2/328-329]).
[11] (الأعلام العلية ص[47-48]).
[12] (الأعلام العلية ص[52]).
[13] (الأعلام العلية ص[65]).
[14] (الأعلام العلية ص[68]).
[15] (الوابل الصيب ص[70]).
[16] (التحنيك: هو وضع العمامة تحت الذقن، ولف طرفيها على الرأس).
[17] (الأعلام العلية ص[69-70]).
[18] (انظر على سبيل المثال الأعلام العلية للبزار، والشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الكرمي الحنبلي، وشيخ الإسلام جهاده، دعوته، عقيدته، للشيخ أحمد القطان، ومحمد الزين، ومجموعة أوراق من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني، والفكر التربوي عند ابن تيمية د. ماجد العرساني، وابن تيمية باعث الفكر السلفي للشيخ محمد خليل هراس، وأحوال وأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتب ابن القيم ليوسف صالح، ونظريات ابن تيمية في السياسة والاجتماع للمستشرق الفرنسي هنري لاووست). 

المصدر: كتاب: الهمة العالية.

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

  • 14
  • 0
  • 28,921
المقال السابق
(40) نماذج رائعة للهمة العالية- نور الدين محمود 3
المقال التالي
الهمة العالية (42)- نماذج رائعة للهمة العالية- سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً