الأحكام السلطانية للماوردي - (95) أحكام الحسبة (1)
من شروط والي الحسبة أن يكون حرًّا عدلًا، ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة.
الباب العشرون: في أحكام الحسبة (1)
الحسبة[1]: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا أظهر فعله. وقال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران من الآية: 104].
وهذا، وإن صح من كل مسلم، فالفرق فيه بين المتطوع والمحتسب[2] من تسعة أوجه:
أحدها: إنَّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في فروض الكفاية.
والثاني: إنَّ قيام المحتسب به من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه، وقيام المتطوع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.
والثالث: إنَّه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب إنكاؤه، وليس المتطوع منصوبًا للاستعداء.
والرابع: إنَّ على المحتسب إجابة من استعداه، وليس على المتطوع إجابته.
والخامس: إنَّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة؛ ليصل إلى إنكارها، ويفحص عَمَّا ترك من المعروف الظاهر؛ ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص.
والسادس: إنَّ له أن يتخذ على إنكاره أعوانًا؛ لأنه عمل هو له منصوب وإليه مندوب؛ ليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس للمتطوع أن يندب لذلك أعوانًا.
والسابع: إنَّ له أن يعزِّر في المنكرات الظاهرة لا يتجاوز إلى الحدود، وليس للمتطوع أن يعزر على منكر.
والثامن: أن له أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز للمتطوع أن يرتزق على إنكار منكر.
والتاسع: إنَّ له اجتهاد رأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع؛ كالمقاعد في الأسواق وإخراج الأجنحة فيه، فيقر وينكر من ذلك ما أدَّاه اجتهاده إليه، وليس هذا للمتطوع، فيكون الفرق بين والي الحسبة وإن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وبين غيره من المتطوعين وإن جاز أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من هذه الوجوه التسعة.
وإذا كان كذلك فمن شروط والي الحسبة أن يكون حرًّا عدلًا، ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة[3].
واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي، هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري[4]: إنَّ له أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده، فعلى هذا يجب على المحتسب أن يكون عالمًا من أهل الاجتهاد في أحكام الدين؛ ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه.
والوجه الثاني: ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده، ولا يقودهم إلى مذهبه لتسويغ الاجتهاد للكافة، وفيما اختلف فيه، فعلى هذا يجوز أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفًا بالمنكرات المتفق عليها[5].
__________
(1) الحسبة لغة: اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد، والاحتساب في الأعمال الصالحات وعند المكروهات: هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها، طلبًا للثواب المرجوّ منها. وفي حديث عمر: أيها الناس، احتسبوا أعمالكم، فإن من احتسب عمله، كتب له أجر عمله وأجر حسبته (اللسان: [1/ 315]).
ويقول ابن سيده: والاحتساب: طلب الأجر، والاسم الحسبة، واحتسب فلان على فلان: أنكر عليه قبيح عمله (المحكم والمحيط الأعظم في اللغة: ص [149]).
وشرعًا: المنعة عن المنكر لحق الله، صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر (إحياء علوم الدين: [2/ 321]).
(2) يقول ابن تيمية: وأمَّا المحتسب، فله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من اختصاصات الولاة والقضاء وأهل الديوان ونحوهم (الحسبة في الإسلام: ص [8]).
(3) قال ابن تيمية موضحًا ما يندرج ويقع تحت اختصاصات المحتسب: وأما ولاية الحسبة فخاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، فعلى متولي الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها، ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس، وأما القتل فإلى غيره.
ويتعاهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرّط منهم فيما يجب عليه من حقوق الأمة وخرج عن المشروع ألزمه به، واستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب والقاضي، واعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة أهم من كل شيء، فإنها عماد الدين وأساسه وقاعدته، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله أن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة.
ويأمر والي الحسبة بالجمعة والجماعة، وأداء الأمانة والصدق، والنصح في الأقوال والأعمال، وينهى عن الخيانة وتطفيف المكيال والميزان، والغش في الصناعات والبياعات، ويتفقَّد أحوال المكاييل والموازين، وأحوال الصناع الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات، فيمنعهم من صناعة المحرم على الإطلاق كآلات الملاهي، وثياب الحرير للرجال، ويمنع من اتخاذ أنواع المسكرات، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، ويمنع من إفساد نقود الناس وتغييرها، ويمنع من جعل النقود متجرًا، فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلّا الله، بل الواجب أن تكون النقود رءوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها، وإذا حرَّم السلطان سكة أو نقدًا منع من الاختلاط بما أذن في المعاملة به.
ومعظم ولايته وقاعدتها الإنكار على هؤلاء الزغلية وأرباب الغش في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها، فإن هؤلاء يفسدون مصالح الأمة، والضرر بهم عام لا يمكن الاحتراز منه، فعليه ألا يهمل أمرهم، وأن ينكل بهم وأمثالهم، ولا يرفع عنهم عقوبته (الطرق الحكمية: ص [349، 350]).
(4) هو أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن الفضل الإصطخري، الفقيه الشافعي؛ كان من نظراء أبي العباس بن سريج، وأقران أبي علي بن أبي هريرة، وله مصنَّفات حسنة في الفقه منها كتاب (الأقضية)، وكان قاضي قم، وتولَّى حسبة بغداد، وكان ورعًا متقللًا، واستقضاه المقتدر على سجستان فسار إليها فنظر في مناكحاتهم فوجد معظمها على غير اعتبار الوليّ، فأنكرها وأبطلها عن آخرها. وكانت ولادته في سنة أربع وأربعين ومائتين، وتوفي في جمادى الآخرة يوم الجمعة ثاني عشرة، وقيل: رابع عشرة، وقيل: مات في شعبان سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى.
(5) قال ابن القيم رحمه الله: من المعلوم أنَّ العمل بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين والصحابة بالمدينة كان بحسب من فيها من المفتين والأمراء والمحتسبين على الأسواق، ولم تكن الرعية تخالف هؤلاء، فإذا أفتى المفتون نفذه الوالي، وعمل به المحتسب، وصار عملًا، فهذا هو الذي لا يلتفت إليه في مخالفة السنن لا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه والصحابة، فذاك هو السنة، فلا يخلط أحدهما وصله، فنحن لهذا العمل أشد تحكيمًا، وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشد تركًا وبالله التوفيق، وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يفتي وسليمان بن بلال المحتسب ينفذ فتواه، فتعمل الرعية بفتوى هذا وتنفيذ هذا (إعلام الموقعين: [2/ 393]).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: