خلف قضبان القفص
محمد علي يوسف
الحقيقة لم أكن راغبًا في ذلك ولا مستعدًا له، لكن مرض ابنتي الحبيبة ثم العملية الجراحية القاسية التي أجريت لها دفعاني لتغيير ذلك القرار، والموافقة أخيرًا على إلحاحها هي وأخيها لاقتناء مخلوق ما وتحمل مسؤوليته، حسنا إذاً! تريدان طائرًا في قفص؟
- التصنيفات: تربية النفس -
لم أكن يومًا من هواة اقتناء وتربية الحيوانات الأليفة، لم يستهونِ ذلك صغيرًا ولا بالطبع كبيرًا..
وهل أنا قد أديت ما عليّ في تربية نفسي وأبنائي لآتي بمخلوق جديد أربيه؟!
الحقيقة لم أكن راغبًا في ذلك ولا مستعدًا له، لكن مرض ابنتي الحبيبة ثم العملية الجراحية القاسية التي أجريت لها دفعاني لتغيير ذلك القرار، والموافقة أخيرًا على إلحاحها هي وأخيها لاقتناء مخلوق ما وتحمل مسؤوليته، حسنا إذاً! تريدان طائرًا في قفص؟
جدكما العزيز الذي يهوى تدليلكما قد أهداكما واحدًا، تسميانه (بغبغان) وتصران على أنه يتكلم أحيانًا، لا بأس..
لن أستمر في الاعتراض رغم عدم استحساني لفكرة القفص، ورغم أنني أوقن أنها بضعة أيام على أقصى تقدير ثم تملان الأمر، وتزهدان فيه ولن يتحمل مسؤولية الطائر المسكين إلا العبد لله، ولقد كان ما توقعت..
لم يمض أسبوع إلا وقد صار الطائر في مسؤوليتي بشكل كامل..!
الولد انشغل بدراسته، والصغيرة بلعبها وعرائسها، ومعركة تماثلها للشفاء وسيرها على قدميها من جديد، ولم يعد يطعم الطائر أو يسقيه أو ينظف قفصه إلا أنا، والعجيب أني نجحت في ذلك إلى حد ما، ولشهر ونصف بلا كلل!
لكنني رجل مشغول للغاية، كثير النسيان بشكل مستفز، والطائر هو من سيدفع الثمن في النهاية..
- يا ولاد فيه واحدة ست دخلت النار في قطة حبستها، فلم تطعمها ولم تتركها تبحث عن رزقها في الأرض،
يا ولاد أنا ما عنديش استعداد أدخل النار في طائر، يا ولاد إحنا نعتقه لوجه الله أحسن، ترتطم الأقدام بالأرض في خيبة أمل، ويتصايح الطفلان معترضين:
- "هنطير البغبغان يا بابا ده احنا ما صدقنا بقى عندنا بغبغان غلباوي بنص لسان"
- يا ولاد ده لا بغبغان ولا حتى بربع لسان، يا ولاد نتركه يتحرر ويقرر مصيره ويسعى في أرض الله، بدل ما نتحاسب على إهماله أو ظلمه.
- "خلاص.. اللي تشوفه يا بابا".
قالها الطفلان بتبرم مكتوم، فآثرت ألا أزيد إيلامهما بإخراجه أمامهما، لذا اخترت وقتًا في الصباح الباكر قبل استيقاظهما وخرجت إلى الشرفة وفتحت للطائر باب القفص، هيا اخرج، لماذا لا تتحرك، لماذا لا تستعمل جناحيك، أغفلت عن حقيقتك؟! أنسيت أنك طائر؟!
لا حياة لمن تنادي، الطائر مستقر تمامًا في القفص، ظننت في البداية أنه لم يلحظ ذلك الباب المفتوح على مصراعيه، يبدو أنه طائر محدود الذكاء، فلأتركه برهة إذاً لعله يلاحظ أن الباب قد فتح، وأن فرصة التحرر سانحة.
ذهبت لبعض شأني ثم عدت لأجد الطائر يقف على باب القفص دون أن يجرؤ على الخروج، يخرج منقاره أحيانًا، يُدلي ذيله خارج القفص وتراقص به من آن إلى آخر، يغرد تغريدات غير مفهومة ثم يلج القفص من جديد..!
مالك أيها المخلوق غريب الأطوار؟! ما خطبك؟! أهو زهد في الحرية، أم خوف مما بعدها؟!
أم تراك قد ألفت حياة الدعة والرزق الجاهز الذي يصلك حتى بابك؟
أو رزق جاهز في قفص أحب إليك من سعيٍ وكدٍّ في سماء مفتوحة وآفاق رحبة؟
ما أعجب حالك!
يمضي الوقت ولا توجد أي بوادر للخروج، يبدو أنه مُصرٌّ على البقاء، من الواضح أن تلك القضبان لا تمثل له أي مشكلة ما دام الطعام والشراب مكفول له، قد باع حريته وجمد جناحيه عن طيب خاطر، واستبدل كل ذلك بكسرات خبز وبعض الحبوب والماء والدفء الآمن، أفأكون أحرص عليه من نفسه؟
أفأطرده قصرًا من باب مفتوح يأبى أن يعبره؟ أفأجبره على طيران يرفضه؟
وكيف أقنعه بشيء يبدو أنه قد طُمس في نفسه؟ كيف أقنعه أنه لم يخلق لهذا القفص؟
كيف أقنعه أنه طائر؟
هنيئًا لكما يا صغيراي..
لقد قرر الطائر أن يرضي رغبتكما الطفولية في امتلاكه، وأدار ظهره لباب القفص المفتوح، وقرر أن يمكث هنالك.. خلف قضبان القفص.