قضايا الحاكمية تأصيل وتوثيق - (32) التفريق بين الحكم بغير ما أنزل الله في القضية المعينة؛ وبين جعْله تشريعًا عامًا للناس يُلزَمون به
التفريق بين الحكم بغير ما أنزل الله في القضية المعينة؛ وبين جعْله تشريعًا عامًا للناس يُلزَمون به، ويُفرض عليهم الاحتكامُ إليه..
التفريق بين الحكم بغير ما أنزل الله في القضية المعينة؛ وبين جعْله تشريعًا عامًا للناس يُلزَمون به، ويُفرض عليهم الاحتكامُ إليه..
ففي الأوَّل: قد تَرِد عليه المعاذير والموانع التي تَمنع إطلاقَ الكُفر الأكبر عليه؛ مثل: (الجَهل والهوى والاستحلال...) إلخ، وهذا الذي يتنزل بحقِّه: الآياتُ الثلاث من سورة المائدة.
وأما الثاني: والذي لا يَحكم بما أنزل الله أصلًا، وشرَّع مكانها تشريعًا وضعيًا بشريًّا مُلزمًا للناس؛ يتحاكمون إليه عنوةً وقهرًا، فهذا كفرٌ أكبر لأول وهلة، ولا يُنظر معه إلا استحلالٍ أو جهلٍ لكونه من ضرورات الدين الظاهرة..
والحُكم بغير ما أنزل الله، ينقسم إلى قسمين: "أحدهما: أن يستبدل هذا الحكمَ، بحكم الله تعالى بحيث يكون عالمًا بحُكم الله، ولكنه يَرى أن الحُكم المُخالف له، أولَى وأنفعُ للعباد مِن حُكم الله، أو أنه مساوٍ لحكم الله، أو أن العُدول عن حُكم الله إليه جائز، فيجعله القانونَ الذي يجب التحاكم إليه؛ فمثل هذا كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، لأن فاعله لم يرض بالله ربًا، ولا بمحمدٍ رسولًا، ولا بالإسلام دينًا، وعليه ينطبق قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة من الآية:50].
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة من الآية:44]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [المائدة:26-28]، ولا ينفعه صلاةٌ، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج؛ لأن الكافر ببعضٍ كافرٌ به كله؛ قال الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة من الآية:88]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴿150﴾ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا...} [النساء:150-151].
* الثاني: أن يَستبدل بحُكم الله تعالى، حكمًا مخالفًا له في قضيةٍ مُعينة، دون أن يجعل ذلك قانونًا يجب التحاكمُ إليه.. فله ثلاث حالات: الأولى: أن يفعل ذلك عالمًا بحكم الله تعالى معتقدًا أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد، أو أنه مساوٍ له، أو أن العُدول عن حكم الله إليه جائز؛ فهذا كافر كفرًا مخرجًا عن الملة لما سبق في القسم الأول.
* الثانية: أن يفعل ذلك عالمًا بحكم الله معتقدًا أنه أولى وأنفع، لكن خالفه بقصد الإضرار بالمحكوم عليه، أو نفع المحكوم له، فهذا ظالم وليس بكافر، وعليه يتنزل قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة من الآية:45].
* الثالثة: أن يكون كذلك لكن خالفه لهوى في نفسه أو مصلحة تعود إليه؛ فهذا فاسق وليس بكافر، وعليه يتنزل قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة من الآية:47]. (وهل هناك فرقٌ في المسألة المُعينة التي يَحكم فيها القاضي؛ بغير ما أنزل الله، وبين المسائل التي تُعتبر تشريعًا عامًا ؟!) نعم هناك فرق، فإن المسائل التي تعتبر تشريعًا عامًا؛ لا يتأتى فيها التقسيم السابق -الحالات الثلاث؛ كفر، ظلم، فسق-، وإنما هي مِن القسم الأول فقط -الكفر الأكبر- لأن هذا المُشرع تشريعًا يخالف الإسلام؛ إنما شرعه؛ لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد" (ابن عثيمين رحمه الله، في مجموع الفتاوى والرسائل).
قلتُ : فتبيَّن من هذا بوضوحٍ لا شكَّ فيه، ولا مِريةَ تعتريه؛ هشاشة الاستدلال الدائم، بالآيات الثلاث، على تبرئة الحاكم بغير ما أنزل الله، أيًّا كان حُكمه، أو مذهبه، أو مُخالفته، فإلى هؤلاء : كُفُّوا أذاكُم عن الدِّين وأهلِه.
وفي المنشور القادم -إن شاء الرحمن- زيادة!
- التصنيف: