(20) كأنَّك تَراه
جمال الباشا
لقد كنتُ أتوقَّعُ من الشيخ أن يختصرَ كلامَه ويُنهي درسَه على عُجالة، فوجودُ اثنين فقط من المستمعين في مسجدٍ طويلٍ وعريضٍ لا يستحقُّ كثيرًا من البذلِ والجُهد.
- التصنيفات: الزهد والرقائق - التقوى وحب الله - طلب العلم -
مَشهدُ العالِم الذي يُلقي محاضرةً في المسجد وأمامَه طالبٌ واحدٌ تكرَّر عدَّةَ مرَّاتٍ في الماضي، دون أن ترصُدَه آلاتُ التصوير، وقدَّر اللهُ لي أن أكونَ شاهدًا وحاضرًا في محاضرةٍ لأحَد أكابر العُلماءِ قبل نحو عشرين سنة ووقعَ ذلك أمامي بالفعل!
لم أكن أنو الجلوسَ ولكنّي جلستُ على استحياءٍ حيثُ لم يبقَ إلا أنا وشخصٌ آخر، فلو قامَ الآخرُ بعدَ خروجي فسيبقى الشيخُ يُحاضِرُ في الملائكةِ والجان! لا أريدُ هنا أن أعلّقَ على كلّ دلالاتِ المشهدِ وهي كثيرة:
ـ زهدُ طلابِ العلم وضعفُ الهمّةِ في زماننا.
ـ الحاجَةُ إلى تجديد الخطاب التدريسي.
ـ التقصيرُ في الجانب الإعلانيّ في الحثّ على المحافل التعليمية والدعوية... الخ.
لن أتكلَّمَ عن شيءٍ من ذلك بل سألفِتُ الانتباهَ إلى أجمَلِ وأروَعِ ما في المشهد، والذي أبهَرَني حقًا.
لقد كنتُ أتوقَّعُ من الشيخ أن يختصرَ كلامَه ويُنهي درسَه على عُجالة، فوجودُ اثنين فقط من المستمعين في مسجدٍ طويلٍ وعريضٍ لا يستحقُّ كثيرًا من البذلِ والجُهد.
لقد كانت المفاجأةُ أنَّهُ واصلَ حديثَهُ من بعد المغرب إلى آذان العشاءِ بنَبرَةٍ واحدةٍ وصوتٍ ثابتٍ، وبالتفاعل ذاته الذي نعهدُه منه، بلا تلكّؤ أو تثاقُل، فو الله لكأنَّ أمامَهُ مئاتِ الأشخاص!
لقد كان وقعُ الدرس في نفسي بليغًا، لم أنتفع بمادَّةِ المحاضرةِ عُشرَ معشارِ ذلك الدرس التربويّ الذي تركَ بصمتَهُ في وجداني.
ما الذي جعلهُ يا ترى يفعلُ ذلك وبدون تكلُّف؟! لو كنتُ مكانه لم أفعلْ قطعاً لأنّي سأشعُرُ بالإهانةِ أن لا يجلس في حلقتي العلمية العشرات، وسأسوّغُ لنفسي أنَّهم لا يُقدّرون العلمَ والعلماءَ ولا يستَحقُّون هذا العلم الذي ينبغي أن يُصانَ عنهم!
لقد رأيتُ من المشايخ ممَّن هو دونَ الشيخِ بمراحل يشترطُ نِصاباً من الحضور، مئتي طالبٍ كحدٍّ أدنى لأيَّةِ محاضرةٍ يُدعى إليها، وبلغني عن مُرافِقِ أحدِ هؤلاء المشايخ أنه انسحَبَ من المسجد بالفعل واعتذرَ عن المحاضرةِ لأنَّ المُقدِّمَ -غفرَ اللهُ له- لم يُقدّم الشيخَ بالألقابِ التي تَجبُ في حقّه.
مرةً أخرى.. ما الذي جعلَ الشيخَ مُستَمتعًا بالتعليم، ولم يؤثّر في مستوى أدائِه عددُ الحاضرين قلَّ أم كثُر؟!
قدَّرَ اللهُ لي أن أكونَ قريبَ عهدٍ بعبارَةٍ للجُنيد حيَّرتني، فكأنَّ هذا الموقفَ العمَليَّ جاءَ ليُبَرهِنَ لي ما لم أستوعِبهُ في النقلِ النَّظَريّ.
قال رحمه الله: "إنّي منذُ ثلاثينَ سنَةٍ أخاطبُ اللهَ، والناسُ يظنُّونَ أنّي أخاطِبُهم"!
مع أنّي لا أحبُّ الكلامَ المُغرِقَ في التصَوُّفِ والعباراتِ المُشكِلةِ حمَّالَةِ الأوجُهِ، والتي قد تكونُ موضع تُهمَة، غيرَ أنَّ هذه العبارةَ أدهشَتني، ونحَتَتْ في قلبي، فهمتُ منها أنَّ العبدَ إذا بلَغَ رُتبَةَ الإحسانِ فهذا يعني أنَّهُ يعبُدُ اللهَ كأنَّهُ يراه!
ومَن كان في حالٍ كأنَّهُ فيه يرَى الخالقَ بعظَمَتهِ وجلالهِ! هل يا تُرى سيكونُ للمخلوقِ حينئذٍ في قلبه موضِعٌ ليلتَفِتَ إليه؟! أدركتُ عندَها أنَّ مَن بلغَ الإحسانَ حقًا قد لا يبصرُ بالفعلِ مَن أمامَهُ، وإن كان ظاهرُهُ كذلك.
إنَّهُ مقامُ الفَناءِ عن الخَلقِ وأنَّى لِغِلاظِ الأكبادِ من أمثالي أن يُدرِكَه!