(4) فقه العَلمنة، والسياسة في السنة
أبو محمد بن عبد الله
إننا نسمي العَلمانيين مِن ساسة وكُتَّاب وإعلاميين بالعلمانيين، لأنهم ينادون بفصل الدين عن السياسة، فإذا فعلها عُلماء شريعة، فلا يمكن إلا وصفهم بالعلمانية، أو بالوقوع فيها، لأن علة الحكم قد تحققت فيهم، والشريعة لا تُفرِّق بين متماثلين، كما أن الحكم يدور مع علته.
السياسة عمل الأنبياء، على رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل كان صلى الله عليه وسلم يعملها خارج الدين، حتى يقولون نرجع منها إلى الدين أو إلى تعليم الناس الدين؟! وهل ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ساس بغير الدين، أم ينفون عنه أنه ساس الأمة؟! أيتهما قالوا فقد كذب زعمهم.
- التصنيفات: الملل والنحل والفرق والمذاهب - مذاهب باطلة - الطريق إلى الله -
كنا توقفنا في المقال السابق عند دلالة السيرة النبوية على أن السياسة من الدين، وأنه قد مارسها خير هذه الأمة، بينما يتنزَّه عنها متأخِّرون! وذلك مفصل في مقالنا: أَعُلماء عَلمانيون؟! - (3) سياسة العَلْمَنَة والسيرة النبوية
أما الآن فإلى دلالة السنة على ذلك، فمن سنَّته أنه صلى الله عليه وسلم قال: «البخاري؛ الجامع الصحيح، رقم:[3455]، ومسلم؛ صحيح مسلم،رقم:[1842]) [1]، "أي يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه" [2].
» (وقال: المجددي الحنفي: "تسوسهم الأنبياء من السياسة، وهي الرياسة والتأديب على الرعية، ولا يناقَض هذا بقصة طالوت فإنه كان ملكًا لا نبيًا، ونبيهم كان الشمويل عليه السلام لأن الملوك كانوا تباعًا لأنبيائهم؛ فلما أُمِروا به أطاعوهم فكانت السياسة حقيقة للنبي، والملِك كان نائباً منه" [3]. وقال الشيخ العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين: "فالنبي عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء، ولكن جعل الله له خلفاء؛ خلفاء في العلم، وخلفاء في السلطة، والمراد بالخلفاء في هذا الحديث: خلفاء السلطة" [4].
كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الداعية والمربي والحاكم، والمُشرِّع بإذن الله تعالى وأمره، فهل جعل للسياسة (رجالاً) وبقي هو صلى الله عليه وسلم يعلم الناس (الدين) كما يفعل بعض الناس اليوم؟!
هل قال لهم: الذي يريد أن يتعلم السياسة يذهب بعيدًا عن دار أرقمنا، أو عن مسجدنا، أو عن مجالسنا، أو عن قنواتنا العلمية أو الإعلامية، كما يفعلها بعض الناس اليوم؟
هل ألزمَ إخوانَه الأقربين وتلامذته المجتهدين ووزراءه الأتقياء الأنقياء كأبي بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم بأن يعتزلوا السياسة لأنها ملعونة، وأن يلغوا كل برامجهم السياسية، أو يلغوا البرامج السياسية من حياتهم وقنواتهم ومجالسهم، كما يفعله بعض الناس اليوم؟!
أم أن الأمر على العكس من ذلك تمامًا؟ بل تركهم على قمة الهرم السياسي للدولة الإسلامية؛ فورَّثها لأعلمهم وأتـقاهم وأفضلهم بإجماع المسلمين، ولم يقل له أنت من العلماء فطَهِّر نفسك من السياسة ولعن الله السياسة!!
ولما حضر أبا بكرٍ الموتُ، وقيل له: ماذا تقول لربك وقد وليتَ عمر بن الخطَّاب؟ قال: أقول له: وليت عليهم خيرهم.
إننا نسمي العَلمانيين مِن ساسة وكُتَّاب وإعلاميين بالعلمانيين، لأنهم ينادون بفصل الدين عن السياسة، فإذا فعلها عُلماء شريعة، فلا يمكن إلا وصفهم بالعلمانية أو بالوقوع فيها، وإن لم يأخذوا حكمَها، لأن علة الحكم قد تحققت فيهم، والشريعة لا تُفرِّق بين متماثلين، كما أن الحكم يدور مع علته، وهل نعتبرهم عندئذ (علماء معذورين بالجهل؟!).
ومع ذلك نتحرج فنقول: ليس كل من وقع في العَلمانية وقعت العَلمانية عليه، لكنهم دعاة إلى العلمانية، دعاة إلى ضلالة؛ شعروا أم لم يشعروا، قصدوا أم لم يقصدوا.
قال الشيخ العثيمين رحمه الله أيضًا: "وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «
إما جاهل بالدين ولا يعرف، ويظن أن الدين عبادات بين الإنسان وربه، وحقوق شخصية وما أشبه ذلك؛ يظن أن هذا هو الدين فقط.
أو أنه قد بهره الكفرة وما هم عليه من القوة المادية، فظن أنهم هم المصيبون.
وأما من عرف الإسلام حق المعرفة عرف أنه شريعة وسياسة، والله الموفق." (شرح رياض الصالحين، دار الوطن للنشر، الرياض، الطبعة: 1426 هـ: [3/637]).
وأضيف قائلاً: وإمّا أنه عرف ولم يجهل، ولم ينبهر بالكفرة، وإنما جَبُن عن قول الحق، ولم يثبت أمام الابتلاء، ولم يسعه أن يصمت لمَّا عجز عن الخير، فسقط في الفتنة وراح يتعلمَنُ ليُرضي أصحاب العصا الغليظة أو ليسلم من عصاهم! وفي الحديث: « » (البخاري، برقم:[6018]، مسلم، برقم [47]؛ في صحيحيهما).
فالسياسة عمل الأنبياء،على رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل كان صلى الله عليه وسلم يعملها خارج الدين، حتى يقولون نرجع منها إلى الدين أو إلى تعليم الناس الدين؟! وهل ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ساس بغير الدين، أم ينفون عنه أنه ساس الأمة؟! أيتهما قالوا فقد كذب زعمهم.
ألم يكن صلى الله عليه وسلم مُعلمًا لنا بالقول والفعل.. وهذا مما عَلَّمَنَاه؟!
ومعنى «
»، أن الذي يسوس الأمة بعده هم ورثتُه في تركته، وهم العلماء، ولذلك كان من صفات الخليفة أن يكون عالمًا مجتهدًا، إلا إن تعذَّر، أما علمانية بعض العلماء المعاصرين فتقول: ندع السياسة للجهلة والمارقين والماردين. ولا ندخل السياسة لأنها رجس وسوسة!وهل فعلَت العلمانية أكثر من أنها أخرجت الدين من السياسة وأخرجت السياسة من الدين؟! أليست هذه علمانية يدعو إليها عالم، ويؤصِّل لها وبلا دليل، بل تحريف الدين؟!
هل طلبت العلمانية من الناس تركَ الصلاة، والصيام والحج، بل هل طلبت منهم طلب العلم الشرعي؟ وها هي جامعات العالم تدرِّس العلوم الشرعية، حتى في جامعة السربون في أم العلمانية: فرنسا؟
بل ها هي العلمانية تسمح بتعليم الناس دين الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قنوات يقال أنها (إسلامية). بشرط ألا تعلمهم السياسة الشرعية التي يعرفون بها حقوقهم وواجباتهم، ويعرفون فيها توحيد الله تعالى في مجال الحياة! هل يمكننا أن نتمثل فيهم قولَ الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة:120]، ويكفي أن تتبع ملتهم في فصل الدين عن الدولة، وتقسيم الدين وتقطيع أوصاله، فتمارس بعضًا، وتترك بعضا لقيصر يفعل فيه ما يشاء، ويكفيها هذا الاتباع لترضى عنك، وتفتح لك المجال والأثير.
ومِن قبلُ قالت العلمانية للأنبياء، ما شأن الدين وشؤون الحياة، ما شأن الدين والتعري على الشواطئ.. ترويح واستجمام وحرية شخصية.. ما شأن الدين والاقتصاد وأن نفعل في أموالنا ما نشاء؟! عليكم صلواتكم وعباداتكم، واتركونا وشأننا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]؟! كأنَّ العَلمانية الأولى تقول: عجيب هذا الذي تفعلونه أيها العلماء والدعاة.. أتُدْخِلون الدين في الدنيا؟! أَتَحكُمون الدنيا بالدين؟! أتُساوون بين الصلاة والأموال وشؤون الحياة.. أكلها يتدخل فيها الدين؟! اعزلوا الدين والصلاة وافصلوه عن مجريات الحياة!
لقد كانت العلمانية في مكة المكرمة تسمح بإجارة النبي صلى الله عليه وسلم لِأَنْ يمارس دين الله سبحانه في بيته، ويطوف بالبيت، بل وتوفِّر له الحراسة الأمنية من أجل ممارسة دين الله.. بشرط ألا يقرب السياسة! كما يريدها بعض علماء اليوم، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف مهمومًا، فأجاره المطعم بن عدي، أي تكفَّل بحمايته وهو على شِركه، فأمر المطعم أبناءَه بأن يلبسوا السلاح ويحموا محمدًا ليدخل مكة ويطوف بالبيت!
كذلك قد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بنى مسجدًا بمكة بفناء داره قبل الهجرة فكان يتلو فيه القرآن ويدعو إلى الله وإلى رسوله، وقد كان أجاره رجل من سادات قريش على أن يفعل ذلك، وعلى أن يَلزم بيته أو قناته ولا يتجاوز خط السياسة الأحمر الذي خضبته الدماء... دماء المعتصمين.. ليس معتصمي ميدان من ميادين أي مصر.. بل معتصمي حبل الله وكتابه العزيز، الذين يريدون أخذ الإسلام جملة كما جاء من عند الله سبحانه ولا يُفَرِّطون في بعضه أو يُفتَنون عنه أو يتَّخذونه عضين.
هذه كلها تسمح بها العلمانية، ولا تُقلقها.. بل تخدمها حيث إنها تُبين بها أنها لا تحارب الدين، وإنما تحارب التطرف والإرهاب.. وهو كل من يريد أن يمكن لدين الله في الأرض، كل من يريد أن يحكم البلاد بسياسة شرعية... كل من يريد أن يوحد الله تعالى في السياسة كما يوحده في الصلاة والصيام.. كل من يريد أن يُعَلِّم الناس دين الله وأحكام دين الله في السياسة كما يعلمهم إياها في الصلاة والصيام والنكاح وآداب المرحاض..كله من دين الله لا نفرق بين شيء من أحكامه.. وكل هذا إرهاب تحاربه العلمانية، وتجد له غطاءً شرعية عند علماء يؤصِّلون لفصل السياسة عن الدين!
وإلا لو لم تكن من دين الله لما جاء بها الوحي في كتاب الله سبحانه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أجمع عليها علماء الأمة.
ينبغي ألا نكون مقتسمين نجعل كتاب الله عضين، أي أعضاء متفرقة نأخذ بعضها ونترك بعضها: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:89-93]، وهذه الآية بالمرصاد للعلماء قبل أن تكون للحكام أو العوام.
أو كمن قال الله فيهم: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:150-152]. أو كمن أنكر الله عليهم بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:85-86]. واشتراء الحياة الدنيا سبب من أسباب التفريط في الجانب المغضِب لأعداء الدين!
وأمثال هؤلاء المشايخ يحرمون التشبه بالكفار في اللباس والتسريحة، حتى في وضع الساعة في اليمين.. فأين يقع هذا من التشبه بهم في إخراج السياسة من الدين، وفصلها عنه، وأين هي من التشبه بهم في حبس الدين في الجوامع كما حبسوه في الأديِرة والبِيَعِ والصوامِع؟!
فتساءَلْ معـي أيها المسلم، إذا صحَّ لي أن أتسائل فأقول:
إذا رجع هؤلاء إلى قنواتهم وحلقاتهم، لتعليم الناس سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن يقوموا بشرح صحيح البخاري فيها مثلاً؛ فوصلوا إلى هذا الحديث في الصحيحين: « »، أكانوا يعلمونه للناس، أم أنهم يرجعون منه إلى تعليم الناس الدين ويتركونه؟!
أَيُعَلِّمونه لهم كما علَّمه النبي صلى اله عليه وسلم لصحابته رضي الله عنه، وكما علّمه السلف لتلامذتهم، والعلماءُ الربانيون لطُلَّابهم، أم يقولون لهم: اللي عاوز يتعلم سياسة يأخذ هذا الحديث ويَروح أيِّ مكان يتعلم سياسته، فيتعلم سياسته في أي حتة بعيدًا عن الرحمة، بعيدًا عن الحكمة... بعيدًا عن البصيرة؟!
وأي علم يصح ويصلح ويصدق إذا ابتعد عن الرحمة التي ما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بها كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]؟!
وأي علم يصح ويصلح ويصدق إذا ابتعد عن الحكمة التي هي جُماع الخير: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269]؟!
فإذا فعلوا ذلك- وقد فعلوا-.. أيكونون علماءَ أم عَلمانيين؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- شرح صحيح مسلم للنووي، حديث 1842.
[2] - محمد عبد الغني المجددي الحنفي (ت 1296 هـ)، إنجاح الحاجة،
[4] - ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين، 3/635.
[5] - ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين:3/636.
* يتبع لمقالات:
أَعُلماء عَلمانيون؟! (1) الطريق إلى علمنة العلوم الشرعية
أَعُلماء عَلمانيون؟! (2) تنصير الشريعة وإشراك قيصر
أَعُلماء عَلمانيون؟! (3) سياسة العَلْمَنَة والسيرة النبوية
ويُتبع إن شاء الله تعالى:
أَعُلماء عَلمانيون؟! (5) الإرجاء في خدمة العَلمانية
تاريخ النشر: 1 صفر 1436 (23/11/2014)