ريحانة الجباري، شهيدة العفة والطهر

منذ 2014-11-12

هي جريمة لا يقبلها من كانت في قلبه ذرة من إيمان، وستظل ريحانة أيقونة نضال المرأة الإيرانية الحرة المدافعة عن طهرها في مقاومة عصابة لا تعرف الطهر.

كَتَبَ التاريخ بمداد العفة والطهر؛ أن فتاة سُنية إيرانية لم تكمل عقدها الثالث تقدمت واثقة الخُطى، ووقفت شامخة الرأس، واستقبلت الموت الزؤام راضية، واختارت عفافها وطهرها على العيش في عالم مسعور بالشهوات والنزوات، كما كتب التاريخ أيضًا أن دولة تسمى إيران قررت بكل أجهزتها أن تنتقم من تلك الفتاة، لتضاف لسجل الجرائم المتورم لنظام المِلَالِي، وهي تُشكل استمرارًا فظًا لمسلسل واسع ورهيب من الانتهاكات ضد الإنسانية، استمرت لأكثر من ثلاثة عقود.

تلك هي قصة الفتاة الإيرانية؛ المهندسة الشهيدة -بإذن الله- (ريحانة الجباري)، ذات الست وعشرون سنة، التي قضت في السجن سبع سنوات قبل أن يتم إعدامها؛ بتهمة قتل ضابط مخابرات شيعي يُدعى: (مُرتضى عبد العلي سربندي)؛ حيث حاول هذا الضابط اغتصابها، وانتهاك عرضها، فشَجَّت رأسه، في ثورة من الدفاع المشروع عن الدين، والنفس، والعِرض، والكرامة لقتله، وتطبيق الحد الشرعي عليه باعتباره فاسدًا، ومارقا، ومغتصبًا، و كان ذلك في (يوليو لعام ألفين وسبعة من الميلاد)، إلا أن الجهاز القضائي في إيران كانت له وجهة نظر أخرى، تمثلت في الوقوف مع الجاني ضد الضحية، وإصدار حكم الإعدام الجائر، رغم كل المناشدات الدولية، والمنظمات الحقوقية، التي ضرب بها نظام الملالي عرض الحائط، فتم تنفيذ الحكم، يوم الرابع والعشرون من أكتوبر لعام ألفين وأربعة عشر.

وقد أثار هذا الحكم -الذي بدا مع مناسبة العام الهجري الجديد- نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، حيث عَبَّروا عن سخطهم واستيائهم مما حصل، من جريمة لا يقبلها من كانت في قلبه ذرة من إيمان؛ فالكل عَبَّر عن حزنه الشديد تجاه الحدث، و شارك الكثير في نشر الخبر، والتعليق عليه، سائلين المولى عز وجل لتلك الشهيدة بالرحمة والغفران، وأن يسكنها فسيح جناته، وهي فاتحة خير لها، وهو ما يدل عليه الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «مرّ بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَجَبَت، ثم مرّ بجنازة أخرى فأثنوا عليها شرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت فقالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ فقال هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرض» (صحيح مسلم؛ برقم: 949).

وحُقَّ للجميع أن يطلق عليها شهيدة العفة والطهر، فقد لاحظت كما لاحظ الكثير تلك المشاركات الجمة التي شارك فيها الكثير، ما دل على أن أختنا رحمها الله لها محبة في قلوب أهل السنة، وراقت لي تلك الرسالة الأخيرة التي كتبتها بكثير من الكلام الذي يعجز الكثير منا عن تحقيقه والتضحية في سبيله، فجاء في مطلعها: 

"عزيزتي شوليح، علمت اليوم أنه قد جاء دوري لمواجهة القصاص، لقد وصلت للصفحة الأخيرة من كتاب حياتي، ولكني لم أحظَ بفرصة تقبيل يدك ويد أبي، لقد سمح العالم لي أن أعيش تسعة عشر عامًا، ثم جاءت تلك الليلة المشؤومة، التي ربما كان يجب أن أُقتل فيها، ويُلقى جسدي في ركن قصي، وكانت الشرطة ستعرض جثتي عليك للتعرف إليها، وكنت ستعلمين بأنه تم اغتصابي وقتلي، وأن القاتل لن يُستدل عليه، لأن لا حول لنا ولا قوة، ومن ثم كنت ستقضين حياتك في معاناة وعار مما ارتكبت.

لقد علمتِني يا أمي، يا أعزّ أم، أن أحدنا يأتي إلى هذا العالم لاكتساب الخبرات، وتعلمت منك أن علينا أحيانًا القتال، وأن علينا أن نثابر، لكي نخلق قيمة لنا، حتى لو كان ذلك يعني الموت، وعلمتني أنه عندما أذهب إلى المدرسة ينبغي أن أكون مُتعالية على النزاعات والشكاوى.

وعندما تم تقديمي للمحاكمة، بدوت وكأنني قاتلة بدم بارد، ومجرمة بلا رحمة؛ لأنني لم أذرف الدموع، ولم أتسوّل العطف، حتى أنني لم أبك، فقد كنت واثقة من حقي ومن القانون، ولكن واجهتني تهمة (عدم المبالاة)، وكم كنت ساذجة بتوقعي العدالة من القضاة".

واستأنفت قائلة:

"العالم لم يحبنا يا أمي، وأنا الآن استسلم لذلك، واحتضن الموت؛ لأنني في محكمة الله سوف أقوم باتهام المفتشين، وقضاة المحكمة الذين آذوني في يقظتي ومنامي، في العالم الآخر، إنه أنا وأنت من سيوجه التهم لهؤلاء، وسننتظر لنرى ما يريده الله، أنا أحبك يا أمي".

لا أعرف مدى قدرة أم ريحانة على الصبر، وما كنت ثاويًا أمامها وهي تقرأ هذه الرسالة، ولكن أعرف أنه كانت تغمرها الدموع اليائسة، دموع أم تودع بنتها إلى الموت، وأكاد أجزم أن لغة الروح تناثرت في تلك الرسالة، ستغض الأم من طرفها قائلة بنبرة تخنقها العبرات: "ليتهم أعدموني معك، أو نيابة عنك".

فأصعب موقف أن تتحدث في شخص قد مات بقوة القرار الذي لا تملك له دفعًا، أما إذا كان فلذة كبد فلا أصدق أن في طوق المرء أن يتحمل النظر إليه أكثر من مرة.

هكذا مشت الشهيدة ريحانة في درب الأباة والخلود، ولعلها معادلة في غاية الغرابة؛ أن تُعْدَم لكونك دافعت عن عرضك، من مغتصب أشر، ومجرم، ودنيء، وأن يقتص القضاء الظالم من الضحية، ويدافع عن الجلاد.

ولكن إذا عُرف السبب بَطُلَ العجب، فأثناء مثولها أمام القاضي قال لها: "لماذا قتلتي الرجل؟" فقالت: "دفاعًا عن شرفي"، فرد عليها: "هذا ليس مبررًا للقتل"، فقالت له: "لأنك لا تعرف معنى الشرف"، فكان ما كان من الحبس بتهمة إهانة المحكمة، ولو صدقوا لكرروا الجواب الصحيح المتضمن لبيان التهمة: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82]، وبالتالي فقد دفعت الشهيدة (ريحانة الجباري) بشجاعة وإصرار وإباء ثمن دفاعها عن طهرها، وعفافها في وجه قوم لا يعرفون للطهر معنى.

وستظل أيقونة نضال المرأة الإيرانية الحرة المدافعة عن طهرها في مقاومة عصابة لا تعرف الطهر.

رحم الله ريحانة الجباري وتقبلها في الشهداء، وجمعنا بها في الجنة.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك
  • 1
  • 1
  • 3,866

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً