كاشفات المحن!
إن معادن الناس تظهر في الشدائد، تبين حقيقتها، وتجلي كامن صفاتها، فقد تعرف انسانًا لفترات طويلة، ولايبين لك منه صفاته الحقة، فإذا مرت الشدائد ظهرت صفاته وبانت علاماته، فلكأنما تكشف بعد اختفاء وتعرى بعد غطاء!
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
لا تستطيع أن تعلم حقائق الأشياء إلا عند اختبارها، وفتنة المعادن تخرج خبثها، وتبقي على ثمينها. ولا تستطيع أن تعلم حقائق الناس إلا في المواطن المختلفات، وأهمها في مواطن البلايا والمشكلات.
فلطالما ظهر بعضهم بوجه غير الوجه الذي تعرفه به إذا مر به بلاء، ولطالما تغيرت الوجوه ونكصت الخطوات على الأعقاب في المحن والشدائد. فكم من صديق أنكر صديقه عند شدته، وتركه يعاني الآلام رغبة في مصلحة ذاتية أو خوفًا من مضرة مظنونة. وكم من رجل ظنه الناس وقورًا حييًا إذا به يسقط في مستنقع العورات وموبوءة الشهوات عندما عرضت عليه الفتن.
وكم من امرىء ظنه الناس عالمًا عاملًا، إذا به ينقلب حليفًا لكسبه فيلوي عنق الكلمات ويدنس نفسه بممالأة الباطل، فلا يرفع للحق راية، ولا يقيم للدين قائمة مادام ذلك قد تعارض مع مصالحه الشخصية ومنافعه الدنيوية ومادام كان في قولة الحق له اختبار وفي موقف الصدق عنده شدة وابتلاء!
إن معادن الناس تظهر في الشدائد، تبين حقيقتها، وتجلي كامن صفاتها، فقد تعرف انسانًا لفترات طويلة، ولايبين لك منه صفاته الحقة، فإذا مرت الشدائد ظهرت صفاته وبانت علاماته، فلكأنما تكشف بعد اختفاء وتعرى بعد غطاء!
والشدائد تقرب المؤمنين إلى ربهم، وتباعد المزورين والكاذبين عنه سبحانه. فالمؤمن يسارع توبة واستغفارًا، وإنابةً وإصلاحًا، وردًا للحقوق، وتبتلًا لله سبحانه رجاء تخفيف الشدة وإذهاب الغمة.
والكاذب يسارع إلى الدنيا يطلب منها فك الشدة، ويتعلق بالأسباب، وينسى ربه سبحانه، فلا تزيده الشدة إلا نفورًا، قال سبحانه: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍۢ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِۦ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةَ ۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ} [الحج:11].
والشدائد منقيات، يقول صلى الله عليه وسلم « » (صحيح ابن حبان [2913]).
والله سبحانه طيب لايقبل إلا طيبًا، فيسلط الشدائد على المؤمنين لتفتن صفاتهم، وتنقي حقيقتهم، فيذهب الخبث، ويبقى الطيب، فيلقون الله طيبين، ومن وافته منيته من الموحدين قبل أن يتم توبته، تمت تنقيته قبل دخول الجنة، فيدخلون الجنة بعد التنقية والتصفية فيقال لهم عندئذ: {سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ} [الزمر من الآية:73].
وكما أن الشدائد كاشفة لمقدار الخير في الدين، فإنها كاشفة في أمور الدنيا، فالشدة تظهر الصديق الحق، وتبين فضيلة المرء، فكم من مدع لفضيلة إذا جاءت الشدائد أسفر عن وجه جبان قبيح، وأناني خسيس، وكم من كريم قليل الحديث عن نفسه، تراه في الشدائد أسدًا هصورًا، ومروئيًا عظيمًا، مؤثرًا الخير على نفسه وباذلًا للمكرمات حتى لو كان حاله ضيقًا.
حتى إني وددت أن لا تكون صداقة إلا بعد شدة واختبار، ولا أخوة إلا بعد عشرة واختيار، حتى لا نسمع بالصدمات النفسية في الأصدقاء والإخوان، تلك التي نسمع عنها كل يوم!
والشدائد أيضًا كاشفة لقيمة المرء أمام نفسه، فيعلم من نفسه كم هو صادق مع نفسه ومع ربه، وهل هو مدع لايلبث أن ينكسر في المشكلات وينقلب على عقبيه فيها أم أنه صادق مع نفسه واضح معها، ويعلم قدر ثقته في مبادئه وقيمه، ويعلم مكامن الخلل عنده وأماكن الثغرات في شخصيته.
والشدائد تقوي النفس، وتقوم الظهر، وتثبته، وتجعله صلبًا في مواجهة تقلبات الدنيا، فإن صبر المرء فيها وتوكل على الله ربه، وأخذ بالأسباب، وداوم وصلًا بالرحمن الرحيم ذكرًا ودعاء والتجاء، فما يلبث أن يعود أقوى وأرسخ.
قال سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174]
خالد رُوشه