تب على الفور قبل أن..!
وحين يحرص المسلم على التوبة فإن الشيطان له أساليب مبتكرة، ووسائل شتى فحينما يحرص العبد على التوبة مستعظماً ذنبه وما اقترفه؛ يأتيه الشيطان ويقول له: ماذا فعلت حتى تتوب؟ أنت من خيار الناس، والتوبة يحتاجها أصحاب المعاصي الكثيرة الكبيرة، فأنت لست منهم فلا تشغل نفسك بذلك، وحتى لو تضاعفت ذنوبك فهي صغيرة قليلة بالنسبة لغيرك، والله غفور رحيم؛ لا يؤاخذ الناس بمثل ذلك.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد:
فإن للأزمات أثرها في شعور الناس بضعفهم وعجزهم، ويصاحب ذلك تطلع إلى الخلاص، فإذا المرء يتلفت عن يمينه وشماله بحثاً عن مخرج، فهناك تتجه النفوس إلى خالقها، حتى إن المشركين إذا مسهم الضرّ دعوا الله مخلصين له الدين!
وتلك الفرصة السانحة من إقبال القلوب على الله تعالى هي مفتاح الفرج، إذا ما أُحسن استثمارها بابتداء عملية مراجعة شاملة للنفس، مع صدق العزم على المضي في التغيير الجاد الذي جعله الله شرط تغيرُّ الأحوال فقال سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد من الآية:11].
والتوبة التي يجب على كل فرد أن يبادر إليها قبل فوات الأوان هي رجوع العبد إلى ربه تعالى؛ بفعل الطاعة واجتناب المعصية، ومفارقة طريق المغضوب عليهم والضالين، فهي رجوع عما تاب منه العبد إلى ما تاب إليه، وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الناس، الذين لايتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من الفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها، فأكثر الخلق يتركون كثيراً مما أمرهم الله به من الأقوال والأعمال، وقد لا يعلمون أن ذلك مما أُمروا به أو يعلمون الحق ولا يتبعونه، فيكونون إما ضالين؛ بترك العلم النافع، وإما مغضوباً عليهم بالإعراض عن الحق بعد معرفته.
ولمسيس حاجة الأمة أفراداً وجماعات إلى المراجعة والتوبة، وخاصة في مثل هذه الظروف العصيبة، اعلم –أخي المسلم- أن للشيطان أساليب في إبعاد الإنسان عن التوبة، فاعرفها واحذر منها، وارجع إلى الله قبل فوات الأوان ومن تلك الأساليب الشيطانية:
التسويف
فحين لا يجدي تزيين الشيطان وتلبيسه المعصية على العبد؛ فإنه يقود العبدَ إلى التسويف وتأخير التوبة، فيقول له حين يراه مصرّاً على التوبة: لا بأس أن تتوب، ولكن لماذا العجلة وأنت في مرحلة الشباب؟ لماذا لا تتوب عندما تكمل الدراسة، فإذا أكمل الدراسة قال له: حتى تجد عملاً، فإذا وجد قال: حتى تتزوج، فإذا تزوج قال له: حتى تؤمّن المستقبل، وهكذا يتدرج معه في التسويف حتى يضعف إقباله على التوبة، أو حتى يفاجئه الموت قبلها، وهذه هي قاصمة الظهر.
واعلم –أخي المسلم- أن علاج التسويف يكون بتذكر الموت والبلى، وأن الصغير قد يموت قبل الكبير، والصحيح قبل المريض، قال صلى الله عليه وسلم حاضاً على تذكره: « »؛ يَعْنِي الْمَوْتَ[1].
وقد ذم الله -سبحانه- من اغتر بالمغفرة فتمادى في المعصية، فقال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف من الآية:169].
وحين يحرص المسلم على التوبة فإن الشيطان له أساليب مبتكرة، ووسائل شتى فحينما يحرص العبد على التوبة مستعظماً ذنبه وما اقترفه؛ يأتيه الشيطان ويقول له: ماذا فعلت حتى تتوب؟ أنت من خيار الناس، والتوبة يحتاجها أصحاب المعاصي الكثيرة الكبيرة، فأنت لست منهم فلا تشغل نفسك بذلك، وحتى لو تضاعفت ذنوبك فهي صغيرة قليلة بالنسبة لغيرك، والله غفور رحيم؛ لا يؤاخذ الناس بمثل ذلك.
ومن وسائل مكر الشيطان على العبد تصعيب الاستمرار على الطاعة بعد التوبة؛ حيث أن التوبة تحتاج إلى استقامة على الطاعة، والاستقامة شاقة على النفس، وتجلب عداوة أصدقاء السوء، فيأتيه الشيطان ويقول له: لماذا تتعب وتحمل نفسك مشقة الطاعة وعداوة من حولك من المنحرفين القريبين والبعيدين.
ومن خداعه ومكره -لعنه الله- التيئيس؛ إذ يسرف بعض العباد في اقتراف المعاصي، ويذنبون فيطمعون في التوبة، وحين يقدمون عليها يستعظمون ذنوبهم -وهي عظيمة- فيغلب عليهم جانب الخوف على جانب الرجاء، فيدخل الشيطان عليهم من هذا السبيل، ويقذف في نفوسهم أن الله عز وجل لا يقبل توبتهم؛ لأن ذنوبهم عظيمة وكثيرة ؛ لذا يصاب الإنسان باليأس والقنوط من رحمة الله، وهذا اليأس والقنوط ذنب آخر يضاف إلى الذنوب الأخرى التي تحتاج إلى توبة منها، وعلاجه بتذكر سعة رحمة الله وعظيم مغفرته، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وقال صلى الله عليه وسلم: « »[2].
فانتبه -أخي المسلم الكريم- وتب قبل أن ينزل بك الموت واجعل نصب عينيك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100].
ولا تغتر بكثرة العاصين: بمشاركتهم في المعصية ثم العقوبة، والظن بأن ذلك ينفع؛ فقد نفى الله ذلك، فقال: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
وختاماً: فإن هذا الواجب الكبير -واجب العودة والإنابة إلى الله- لا يستغنى عنه عبد، ولا يعذر في تركه فرد، ولن يقوم شأن الأمة ما لم يبادر الأفراد إلى أداء واجباتهم، والتوبة مما فرطوا فيه في حق الله تعالى، بدلاً من التلاوم وإلقاء التبعات على الآخرين؛ تهرباً من المسؤولية، وهل الأمة إلا مجموع أفرادها؟! والله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور من الآية:31].
نسأل الله سبحانه بمنِّه وكرمه العون والسداد، والتوبة من جميع الذنوب والمعاصي، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين[3].
-------------------
1. (رواه الترمذي [2229] [8/279]، وابن ماجه [4248] [12/310]، وحسنه الألباني [4258] في تحقيق سنن ابن ماجة).
2. (رواه الترمذي [3463] [11/448]، وصححه الألباني في تحقيق سنن الترمذي برقم [3540]).
3. (من موسوعة البيان بتصرف).
- التصنيف: