الهتيفة!
محمد علي يوسف
في واحدةٍ من أجمل تلاواته القرآنية - انطلق الشيخ محمد صديق المنشاوي رحمه الله يصدح بصوته العذب مُرتَلًا آياتٍ لو أُنزِلت على جبلٍ لرأيته خاشعًا ُمتصدِّعًا من خشية الله. والحقيقة أنه في تلك الليلة -تحديدًا- كان الشيخ مُتفنِّنًا بشكلٍ يفوق الوصف، ويبدو أن فتْح الله تعالى له كان على أشُدّه أثناء هذه التلاوة المؤثرة لآياتٍ من أواخر سورة "المؤمنون" تتحدّث عن الآخرة والمآل والمصير ما بين جنةٍ أو نار.
- التصنيفات: تربية النفس - أعمال القلوب - الأدب مع الله وكتابه ورسوله - النهي عن البدع والمنكرات -
في واحدةٍ من أجمل تلاواته القرآنية - انطلق الشيخ محمد صديق المنشاوي رحمه الله يصدح بصوته العذب مُرتِّلًا آياتٍ لو أُنزِلت على جبلٍ لرأيته خاشعًا متصدِّعًا من خشية الله.
والحقيقة أنه في تلك الليلة -تحديدًا- كان الشيخ مُتفنِّنًا بشكلٍ يفوق الوصف، ويبدو أن فتْح الله تعالى له كان على أشُدّه أثناء هذه التلاوة المؤثرة لآياتٍ من أواخر سورة "المؤمنون" تتحدّث عن الآخرة والمآل والمصير ما بين جنةٍ أو نار.
هل كان تأثُّر الشيخ بالآيات سبب ذلك الفتح في القراءة؟
أم أنه كان رِزقًا ساقه الله للمستمعين ليدَّبّروا آياته ويتأمّلوا معانيها عبر هذا الصوت الشجي - الذي يكاد يُفسِّر المعاني من فرط تأثُّره بها، وروعة تجاوبه معها؟
أم هو صلاح وتقوى وخشية استقروا في قلب الشيخ رحمه الله وظهرت آثارهم على لسانه وفي تلاوته؟
ربما كانت تلك هي أسباب الفتح، وربما غيرها، ليست هذه هي القضية ؛ في النهاية كانت التلاوة رائعة، مؤثرة، مُبكية، مُذكِّرة..
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99-100]...
{كَلاَّ}...
عند كلمة {كَلاَّ} توقف المنشاوي رحمه الله بتمكُّنٍ و(حرفنة) منقطعة النظير.
وقفة تجعلك تتأمَّل تلك الكلمة الحاسمة التي تقطع أي أمل في العودة بعد انتهاء الأجل.
وقفة تمنحك الفرصة للتدبّر والذكرى ومراجعة الحال والتفكُّر في سبل الإصلاح قبل سماع تلك الكلمة هنالك في الدار الأخرى.
وقفة تستلزِم الكثير من النظر وتفتح باب القلب للكثير من الشجن والوجل.
المنطق والفهم البسيط يقول ما سبق، لكن الواقع كان مُختلفًا.
لقد تفجرت آهات المستمعين وتهليلاتهم عند تلك الوقفة المُتمكِنة وبعد هذه الكلمة الحاسمة.. الله الله الله يا عم الشيخ!
إيه الحلاوة دي؟!
إيه يا مولانا الجمال ده؟!
الله أكبر..
الله يفتح عليك يا سيدنا..
يا سلام يا عم الشيخ..
عظمة على عظمة...!
شلّالٌ من تلك العبارات المستحسنة انهمر عبر المذياع -أثناء تلك الوقفة- ليقطع سيل الأفكار التي دارت بخلدي أثناء استماعي لتلك الآيات المبكية: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ . فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ . تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون من الآية:100-104]..
تستمر التلاوة وتستمر معها الصيحات المُتلذِّذة والتهليلات المُشجِعة، ويلتفت المستمعون لجمال الصوت وروعته وتلذُّذهم بالأداء، وينشغِلون بذلك عن المعنى الخاشع الذي يُفترَض أن تسيل مآقيهم من خشيته وتختلج قلوبهم لجلال مشهده الذي ينقلهم القرآن إليه كأنه رأي العين...!
التلذُّذ..
الطرب..
الإعجاب..
مشاعرٌ طبيعية تجاه هذا الصوت العبقري وذلك الأداء المذهل.. لكن هل هذا هو المراد؟!
هل من الطبيعي تجاه آيات مثل التي تُقرأ هذه والتي تحمل ترهيبًا وتدعو للتفكُّر ومراجعة النفس - أن تُستقبَل بمظاهرة إعجاب وتهليل؟!
وهل أُنزِل القرآن لأجل ذلك؟!
وهل تلاوة القرآن هدفها الاستمتاع والإطراب وهزّ الرؤوس؟!
أعتقد أن الإجابة معروفة..
وأعتقد أن هذا الموقف وأشباهه يُلخِّصون تلك الآفة الكبرى التي نعاني منها في مجتمعنا..
آفة الانفصال بين الحقيقة والمظهر..!
بين المراد والواقع..!
بين المعنى والشكل..!
وبين العمق والقشرة..!
آفة إماتة حقائق الأشياء وجوهرها لإحياء غلافها الخارجي والانشغال بالبروباجندا المحيطة بها..!
تلك الآفة التي جعلت المستمعين يومًا في أحد المآتم والقارئ يُرتِّل قول الله حكاية عن فرعون: {فَكَذَّبَ وَعَصَى . ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى . فَحَشَرَ فَنَادَى . فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:21-24].
فإذا بهم يتصايحون قائلين: سبحانه!
سبحان من؟!
قطعًا لا يقصِدون فرعون؛ هُم فقط سمعوا كلمة {رَبُّكُمُ الأَعْلَى}!
وعليهم أن يردوا وأن يُظهِروا تفاعلهم مع القراءة، وأن يتعالى الضجيج الذي يزيد الحواجز بينهم وبين ما أنزل القرآن لأجله - الفهم..
ثم العمل بهذا الفهم..
لا يُستغرب إذًا - أن يقول البعض: "سبحانه" ردًا على كلمة فرعون، ولا يُستغرب أن تتهلّل الأسارير وتعلو صيحات الإعجاب في مقابلة آيات تتحدّث عن الموت والبرزخ والقيامة...!
إنها عُزلة المعاني وإماتة الحقائق وتفريغها من مضمونها..!
تفريغ القرآن بالانصراف لجماليات الصوت والأداء..!
وتفريغ الخُطب والوعظ بالسجع المتكلِّف والبلاغيات المتقعِّرة..!
وتفريغ العلم بالغلو في حمَلته والتعصُّب لهم والانشغال بمديحهم..!
وتفريغ الفِكر بتعقيد الأسلوب ونخبوية الطرح والاستعلاء على المخاطبين..!
وتفريغ السياسة بحُمّى التهليل الدائم لكل شيءٍ ولأي شيءٍ - يصدر عن الرمز أو القائد أو الجماعة والحزب..!
تفريغ كل شيءٍ بالإغراق في المظاهر الصاخبة المحيطة به وبالانصراف عن محتواه وحقيقته..!
وليعلو في النهاية صياحٌ واحدٌ يطغى على كل صوتٍ وفهمٍ ومعنى..!
صياحٌ فحواه دائمًا: الله الله.. يا عم الشيخ...!