ريحانة
هذه الدنيا لا تليقُ بها.. أبدًا لا تليق.
نعم، كما البشر هي.. لكنها ليست كمثلنا!
- التصنيفات: التقوى وحب الله - قضايا الشباب - تزكية النفس - الطريق إلى الله - قصص مؤثرة - محبة النبي صلى الله عليه وسلم -
(1)
حجابها كسواد الليل..
ووَجها كضَيّ البَدر ليلة التمام ..
تتمثّل في عُيونها كُلّ معاني الطُهر والحياء ..
تتأملينها وهي تضحك مِلء القلب، وتُداعب أطفال تلتقيهم لأوّل مرة
فتغرقهم بالحلوى التي تُكدسها في حقيبتها كعادتها ..
فتخالين الدنيا.. كلّ الدنيا تبسُم لصدق طلّتها!
وكأنّها ريحانة من زمان غير هذا الزّمان..
قد يخالها النّاس ما رأت الحُزن في حياتها أبدًا!
غير أنها بَيننا.. تَتنهد.. فتخرج الآه من عُمق قلبها
مِلئها الأنين والكَمد.. وأشياء لرُبما لا يُفهم مَغزاها يومًا
والآن.. أكتب إليكِ، وأثق أننا لن نفهم ما كان من أمر قلبها إلّا هُناك
تَتعب وتئن.. وسريعًا.. تستعين بالله كي لا يُصيبها سَهم العَجز والوَهن من هذه الدُنيا.
أونَكذب؟ هذه الدُنيا دار عناء وكَدر.. فوق ما كانت تتخيل بكثير..
تَمضي في عِقْدِهَا الثاني، وتحمل هُموم أمّة لرُبما في أشدّ مراحل هَوانها حتى الآن..
مات رَسُول الله، ومات الخُلفاء.. ومرّت سنين وسنين..
ثُمّ دَبّ المرض ينخر في جسد أمّة مُزِّقَت أوصالها وتَبعثرت..
شِرذمَةٌ من يتامى نحنُ يا صديقة
نمشي وبيننا طُغاة أفّاقين باسم الحرص على الأمّة والدين. بأسنا بيننا شديد
رُغم كُلّ شيء.. إلّا أنها ما زالت تُتمتم دومًا في شُرود والبسمة لا تفارقها:
حياتنا الطيّبة تفوح من حنايا أرواحنا المُحلّقة هُناك..
نحنُ لنا أرواح لا تَنهزم.. لذا فحياتنا طيبة، رُغم كُلّ شيء..
ما دامت أرواحنا صادقة الوصل بالسَماء.. فكيف تيأس!
والله لولا رحمة الله وأمل فيه يملأ ما بين السّماء والأرض..
لشابت رأسي، وابيَضّت عيناي من القهر والحزن، وهَول ما حملته أيّامي إليَّ!
(2)
ككُلّ مرة.. تتنهد.. وتحكي قليلًا..
ثم سُرعان ما تَملأ الدنيا بضحكاتها!
تُضحكني رَأفة بي، إذا ما ابتئستُ وضَجّت دُموعي لهفة عليها.
كنَسمة صَفِيّة هي.. لا تأتي إلّا بخير.
حدّثتني مرّة أنها كانت فيما مَضى، ضائقة ضائعة تُرَنِّحها هذه الدنيا.. وما تدري أين الهُدى!!
يومها ضحكتُ رُغمًا عنّي! أيّ مَخبول يُصدّق أنّ هذا البَدر كان ضائعًا يترنّح!
ريحانة التي أكاد أستفتيها في كُلّ شيء يواجهني!
تَنصح وتَبحث.. وتُحرص عليَّ وكأنّي ابنة قلبها.
ريحانة التي معها عَلِمتُ معنى كيف أبحث وأصل دون يأس أو كلل.
هذه الدنيا لا تليقُ بها.. أبدًا لا تليق.
نعم، كما البشر هي.. لكنها ليست كمثلنا!
(3)
ما بينها وبين [الله] هو سرّ هذا البهاء في رُوحها رُغمّ كُل انكسار وضيق ووجع.
كيف عَرجت رُوحها.. وتسامت على كُلّ شيء؟ لا أدري
كيف خلعت طِينيتها الثقيلة، وحلّقت حيثُ أرواح الصالحين؟ لا أدري
كُلّ ما أدريه أنّها رُوح عَرفت يقينًا، ووصلت لمعنى حُبّ الله
تشتاق هي.. فنَبكي نحنُ من شَوقها لوجه الله.. أتدرين معنى هذا؟
تقرأ آية من القُرآن.. وتَسكت هُنيهة..
ثُمّ تُخفض طرفها في أدب عظيم..
ثُمّ تحكي عَسلًا مُصفَّى!!
أيّ فتوح هذه التي فتحها الله على قلبها؟ كذا لا أدري
غير أنّي بتُ أستشعر هذه المَقولة التي قالها الجاهليّ حين سمع القُرآن لأوّل مرة.
نعم أعترف بوجع أنّي بعد كُل هذا العُمر.. أخطو أولى خطواتي وبدأتُ أستشعر قَولة كافر
رَقّ قلبه أكثر مني. لربما ليس ذنبي.. وليس ذنب آلاف أو قولي ملايين مثلي..
فنحنُ ولدنا "مسلمين" على الهَويّة والحمد لله
ولكن لم يدروا أنّ ولادتنا الحقيقيّة في الإسلام لا تأتي إلّا بعد أن نكون أهلًا لاستخلاف الله حقًا
أن تولد أرواحنا وتُسلِّم أمرها، وتشهد أنّ لا إله إلا الله
قالها الوليد بن المُغيرة..
واليوم أنا أجلس أمامها.. فأتمتم بيني وبين نفسي:
إِي واللهِ (إن لهُ لَحلاوة وإن عليه لَطَلاوة.. وإنَّهُ لمثمر أعلاه..
مغدق أسفله، وإنهُ ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته).
أخيرًا بدأتُ أستوعب أنّ القرآن مُعجزة محمد.. نعم، وكُلنا يدري!
لكنّه مُعجزة حيّة لا تَموت.. معجزة دائمة.. وليس فقط نُزوله..
مُعجزة ينبغي أن تَعمل داخلنا نحن!
معجزة تُخرِج أحسن ما فينا..
ما دام سَببها موجودًا..
فقط لو قَدرناها حقّ قدرها..
آيات السماء ليست حفظًا وتسميعًا ومُسابقات توضع على الرفوف، أو ألقاب تُحمل وَحَسبْ!
(4)
تضحك بيننا كثيرًا.. وعند الله وحده تسكب دُموع الوَجد والعجز والألم.
أيّ مُصيبة بعد مُصيبة أمّتنا
وأيّ سعادة سنذوقها حقًا في هذه الدُنيا بعدما ذُبح الأطفال كخراف الأضاحي، وهُتك ستر الطاهرات.
وهُدّمت المساجد على رؤس النّاس، وحُرّق الشُيوخ والمَرضى أحياء
وغزا العقول جهلٌ، من فوقه جُبن وحُبّ دنيا وَمَال، من تَحته هَوَانٌ واستسلام
ظُلمات بعضها فوق بعض
أيّ صفاء وأيّ نعيم حقيقيّ في هذه الدنيا وحالنا على ما هو عليه
نعم.. أظلّتنا سَحابة ظُلم.. غَمَامَة جَهل عن معرفة الله،
وعزّته لن تَنزَاح إلّا إذا أزحنا هذه الظُلمات عن عقولنا
ظُلمات في نفوسنا.. في قلوبنا.. بين حنايا أرواحنا.. أثقلتنا، وأردتنا إلى الهوان.
(5)
ريحانة كانت تُحدثني عن أنها ما هَنِئَت يَومًا بلذيذِ طعامٍ ولا حتّى مَنام
كان طيفٌ، بل أطياف تُؤرقها.. أنّى ذَهَبت.
لَكِنّه الأرق الجميل.. نعم
لكنه الحُزن العزيز.. نعم، صدقيني
ريحانة لا تعرف معنى الذُلّ وهي مُعتزّة بالله الذي لا إله إلّا هُو..
مُؤمنة هي أن بيدها وبيد أمثالها من يملكون ضَيّ القُرآن ويمشون صدقًا على الدرب..
لن يُخيّبهم الله.. وكيف يُخيب من استعصم به وطلب هُداه عاملًا.. يقظًا..
مُستبسلًا فوق كُل أكدار الدُنيا.. ما دامت له رُوحٌ تُحلّق
مع كُلّ لقاء.. تُحدثني عن طلّته.. رَسُول الله
عن بَسمته، وهالة النُّور في وجهه.
لا تملّ من ترديدها حتى بينها وبين نفسها:
" (البخاري 4418)
تغمض عُيونها كُلّ مرّة وتبتسم.. فتغزو بَسمة الشّوق قلبي قبل ثغري. أوَّااه
نَرى الشّوق لرَسُول الله مُتجسدًا في هذه السكينة الطّافِحة على وجهها الصَفيّ حينها.
يا هناء قلبها. رأتهُ مرّة واحدة.. وما زالت تبكي طمعًا في لقاء آخر
أكذِبُ عليكِ لو قلتُ لا أحسدها.. بل أغبطها بشدة. غفر الله لي.
آآهٍ يا صديقة.. لو تسمعين حَكيها وهي تحدثكِ عن رِفْقِهِ، عن قَلبه، عن حُبّه لله
سيرة أحمد.. حين تفيض من قلبٍ صادق مُشتاق..
ثقي أنّكِ ستذُوبين تمامًا! وكأنّكِ في دُنيا غير هذه الدُنيا ورَبّ الكعبة!
(6)
تُحدثني دومًا أنه حين يُصيبها الكَسل والتّعب.. تَذْكُره -رسول الله- !
فتهبّ.. وتقف أمام مِرآتها مُحدثة نفسها!
وتقول:
ريحانة!
أنتِ أمَةٌ من أمّة خير البريّة.. أتعلمين معنى هذا!!؟
يعني، أنكِ بعد مُرور عدد من السنين.. والتي يعلمها الله..
ستكوني في جَمعٍ مَهيب.. سَتكونين مع كُل الخلق!
وأنتِ تَوَدّين أن يُباهي رسُول الله بكِ الأمم يوم القيامة.. أليس كذلك؟!
طَامِعَةٌ أنتِ.. وتطمعين في نظرة رضا من الله..
إذن.. لِمَ الفُتور.. أجيبيني!!
أمّ أنه رَسُول الله أتاكِ عبثًا في المنام.. هيا هيا .. إلى العمل يا فتاة!
كانت نقيّة الفِطرة.. بَريئة.. تَصنع الضّحكة، والبهجة دومًا..
بل تَقطر كُل معاني البَهجة مِنها هكذا بكُل بساطة، دون أدنى ترتيب منها.
تشعر بتقصيرها.. وترنو للأفضل والأفضل.. رُغم أني ما رأيت من يعمل بهمّتها أبدًا!
(7)
حين تُمطر.. لا تبتعد..
بل تجلس حتى يرتوي قلبها بهذا الجَميل الذي قال عنه حبيب الله
« ... » (صحيح مسلم رقم 898)
مطر نقيّ.. ولو تعلم أننا لا نرى قلبها إلا كصفاء قطرات المطر هذه!
تُمطر.. فتنزوي عنّا، وعن جُنونا وهروبنا خشية أن نَتبلّل..
تنزوي هي مُبتهجة.. بل ضاحكة.. تنساب عليها كلها قطرات المطر.
وكأنّها تغسلها حتى من هواء هذه الدُنيا!
وكأنها تُربت على جَسدها كُله أن كوني بخير!
هذا مطر من عند الله إليكِ.. إلى الأنقياء!
تَرفع كفيها نحو السماء.. وتَطلب من الله ما تشاء..
ويا لِجمالها.. أتـأمّل هذا المشهد أمامي..
وأنا أعلم عِلم اليقين أنها هذه الدقائق بالذات، تبكي بشدّة!
تُغرق وجهها الدّموع وليس قطرات المطر فحسب..
لكنها ضاحكة مُستبشرة.. واثقة أنّ [الله].. [الحقّ].. يسمعها..
مَعها دومًا.. يعلم ما يحكيه خَفق قلبها.
بقلم: أمل ناجح
-----
توضيح:
لا أتحدث هنا عن الجميلة الشهيدة بإذن الله [ريحانة جباري] رحمة الله عليها.