جنة الدنيا - (1) هلموا إلى جنة الدنيا

منذ 2014-11-18

مع الكبد، ومع الابتلاء، ومع الدنيا بما فيها، هل يمكن أن يعيش إنسان في هذه الدنيا سعيدًا؟!

أعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشِّيطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

إن الحمدَ لله، أحمدُه تعالى، وأستعينه وأستغفره، وأعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِ على محمد، وعلى آلِ محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].

أما بعد،
فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله تعالى، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن شرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. ثم أما بعد،
فإخوتي في الله...
والذي فلق الحبة وبرء النسمة إني أحبكم في الله، وأسأل الله جل جلاله أن يجمعنا بهذا الحب في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

اللهم اجعل عملنا كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل فيه لأحدٍ غيرك شيئًا.

أحبتي في الله...

كل عام وأنتم بخير، وأسأل الله جل جلاله أن يجعل هذه الأيام فاتحة خير وبركة، ونعمة يتمها علينا وعليكم وعلى المسلمين والمسلمات.
أحبتي في الله...
كيف حالكم مع الله؟

كيف حال قلوبكم مع الله؟
نعم إخوتي...

إننا نعيش في دنيا، وقد يبدو سؤال يبْتدرنا في البداية، مع هذا البرنامج (جنة الدنيا) السؤال مع قول ربنا جل جلاله {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، تعب ومشقة، ثم هي الدنيا، الدنيا دار ابتلاء؛ قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، قال جل جلاله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2].

السؤال: مع الكبد، ومع الابتلاء، ومع الدنيا بما فيها، هل يمكن أن يعيش إنسان في هذه الدنيا سعيدًا؟!
هل هذا ممكن؟! هل هذا وارد؟ هل هذا مقدور؟! أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا سعيدًا؟
والإجابة: نعم، نعم، نعم، الإجابة: نعم، هذا ممكن ومقدور.
أما سؤالك فينبغي أن يكون: كيف؟ كيف؟

إنها جنة الدنيا، جنة الدنيا التي وهبها الله عبادًا من عباده، قال ربنا جل جلاله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، بالله عليكم! حياة طيبة تتصور حياة طيبة كيف تكون؟ وتأمل الآية مرة أخرى، قال جل جلاله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ}؛ الفاء للترتيب والتعقيب، {فَلَـ} لام القسم، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ} نون التوكيد المشددة، {حَيَاةً} توكيد لفظي آخر، فبالقسم ونوعين من أنواع التوكيد فَلَنُحْيِيَنَّهُ الله، يقسم حياةً طيبة بمقياس من؟ حين يقول الله: {طَيِّبَةً}! فكيف تكون الحياة طيبة؟ طيبة إلى أقصى درجات الطيبة، حياة طيبة وما هي إلا الجنة.

- (جنة الدنيا) والتي قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله-: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة".

- (جنة الدنيا) قال ربنا جل جلاله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ} [هود:108]، جنة الدنيا.


أيها الإخوة...
قال ربنا جل جلاله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [المطففين:13-14]، قال ابن القيم: "الأبرار في نعيم، في دورهم الثلاثة، والفجار في جحيم في دورهم الثلاثة"؛ والدُور الثلاثة: دار دنيا (الدنيا)، ودار البرزخ (القبر)، ودار الآخرة (جنة أو نار). الأبرار في نعيم في الدور الثلاثة، في دار الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، والفُجار في جحيم في دورهم الثلاثة: في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.

قال ربنا جل جلاله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، قال سبحانه: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، فهم ليسوا سواء في الحياة الدنيا، بمعنى الفُجار والمجرمين والفساق، والعُصاة ليسوا كالمطيعين والطيبين في الدنيا، ليسوا سواء أن نجعلهم سواء {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.

لذلك أيها الإخوة...

هذه الدنيا فيها جنة، اسمع إلى كلام نبيك محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خير له» [رواه مسلم].

هذه حياة الطيبين كلها خير، كلها بركة، كلها رحمات، كلها نعيم؛ ولذلك تعال أحدثك عن قوم عاشوا جنة الدنيا، قال بعضهم: "إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص القلب فيها طربًا، فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب"، فهو يقول: "إنه في هذه الدنيا أحيانًا أشعر أن قلبي يرقص طربًا، فأقول هل الناس في الجنة يشعرون بمثل هذه السعادة، إذًا فالجنة جميلة جدً،

إذًا هي جنة الدنيا! وقال بعض السلف: "مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها، قال: ذكر الله".

تعالوا إلى جنة الدنيا.

إخوتي...

والذي فلق الحبة وبرء النسمة إني أحبكــم في الله.

إخوتي...

هيا تعالوا معي، تعالوا إلى جنة الدنيا، هيا بنا إخوتي.

إلى الباحثين عن السعادة؛ هلموا إلى جنة الدنيا.

إلى الراغبين في الجنة؛ هلموا، تعالوا إلى جنة الدنيا.

إلى الفارين من النكد؛ من الألم؛ من الهم؛ من الحزن؛ تعالوا، أَقْبِلوا، ها هنا جنة الدنيا.

ويسأل سائل: "أين؟ أين جنة الدنيا؟ إلى أين؟، وها أنا أقول لك:

"جنة الدنيا العلم، فاعلم أنه لا إله إلا الله، العلم أن لك ربًا خالقًا، قادرًا، مدبرًا، رازقًا، قاهرًا، قادرًا.

جنة! جنة أن تعلم أن ربك الذي تعرفه وتعبده وتحبه وتتقرب إليه هو الذي يدبر أمر الكون، جنة حقيقة تعيشها، قال سبحانه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]، كأن أحد يتحدث عن أحد، فتقول له هذا أبي، {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي}، ربي أنا {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}.

تعالوا إلى جنة الدنيا، جنة الرضا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا.

وقد ذاق طعم الإيمان من رضي، ذاق طعم الإيمان من رضي و يا له من رضا.

أيها الإخوة...

جنة الدنيا راحة قلبك، وسعادة نفسك، وأنس روحك؛ أن لك ربًا اسمه الجميل.

جنة الدنيا المذاقات الروحية العالية، الأنس بالله، وحب الله، والشوق إلى الله، والطمأنينة إلى الله، والإخبات والخشية والتوكل واليقين والرجاء، المذاقات الروحية العالية، العالية، العظيمة، الدرجات الإيمانية المتألقة: التوبة، الخوف، الرجاء، التوكل، اليقين، الرضا.

جنة الدنيا الأمان {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
جنة الدنيا! الحياة مع الله.
جنة الدنيا! جنة رضوان الله.
جنة الدنيا! تجديد الإيمان بالصيام والقيام والذكر وتلاوة القرآن.
جنة الدنيا! الحب في الله، والتضحية في سبيل الله، وبذل الجهد والطاقة في خدمة دين الله.
جنة الدنيا! إدخال السرور على قلوب المسلمين، مساعدة المحتاجين، إعانة المحرومين، تفريج كربات المكروبين، مسح الألم ومسح دموع البائسين والمحرومين، جنة الدنيا.
جنة الدنيا! الفرح بالله، وقرة العين بالله، والقرب من الله، والحياة على مراد الله.
جنة الدنيا! إرادة وجه الله، والصدق مع الله، والطمع فيما عند الله، ورجاء الآخرة، والتطلع لما فيها من نعيم، جنة.
جنة الدنيا! الاستشراف للدرجات العلى من الجنة، وأنس الروح باليقين في الآخرة.
جنة الدنيا! ألا تحمل للدنيا همًا، وألا تكون على الدنيا حريصًا، وألا يغرك بالله الغرور.
جنة الدنيا! جنة الدنيا.. تناول الطيبات، والرضا بالله وبرزق الله وبقـَسم الله.
جنة الدنيا.. القناعة بالحلال، والسعادة بما قـَسَم الله لك من رزق، جنة الدنيا.

هيا إخوتاه! تعالوا إلى جنة الدنيا.
هيا أخوتاه! اقبلوا اقبلوا إلى جنة الدنيا.
فهذه جنة الدنيا، هذه السعادة، الدرة المفقودة والغاية المنشودة.

إنك إذا لَقيت أي إنسان أيًا كان فسألته: عم تبحث؟ ماذا تريد؟، سيقول لك: أبحث عن السعادة، وأريد السعادة، ثم يظل عمره يبحث ويلف ويدور ويتلفت ويحاول، ولا يعثر عليها، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14].

السعادة سعادة القلب ليست في ملبس، ولا في أكل، ولا في مال ولا في منصب، السعادة، سعادة القلب، والقلوب بيد الرب؛ ولا يسعد القلوب إلا الله.

إخوتاه...
أريد أن أعش معكم شهرًا في جنة الدنيا، شهر في الجنة، شهر نعيش مع بعض كل يوم، وكل حلقة معنى من المعاني الإيمانية، فتكون وردة أقطفها، وردة أنزعها لأقدمها لكم، وردة من جنة الدنيا.

دعوني كل مرة، كل حلقة، أُهدي إليكم وردة من جنة الدنيا، وردة من جنة الدنيا أقدمها إليكم أيها الإخوة في كل حلقة من حلقاتنا، بشرط أن هذه الوردة لا لمجرد المنظر وإن كانت جميلة ورائعة ورائقة، إلا أنها للعمل، فسعادة الجنة العمل لها، والعمل بها، والعمل فيها.

إنني دائمًا أتصور قول شيخ الإسلام بن تيميه عليه رحمة الله: "ما يصنع أعدائي لي، أنا جنتي وبستاني في صدري" جنتي وبستاني في صدري!

إيهٍ -إخوتاه- في تلكم المعاني التي عددتها!

والسؤال: هل عشتها؟ هل رأيتها؟ هل ذقتها؟

السؤال في هذه المعاني الإيمانية التي نذكرها: هل ذقت لذة الإيمان؟ هل ذقت طعم الإيمان؟ هل دخلت جنة الدنيا؟
سؤال: هل جنتك وبستانك في صدرك؟ هل جنتك وبستانك في صدرك؟ في قلبك؟
إنك بحاجة إلى أن تجيب على هذا السؤال، إلى أن تعيش هذا المعنى، إلى أن تقبل كيف يكون الأمر.

إخوتي...
إن هذه الدنيا التي نعيشها مُرَّة، لا تحلو إلا بذكر الله.

إن هذه الدنيا التي نعيشها كبد وتعب وألم وأرق، إن لم نستروح في جنات الطاعات: صيام وقيام وتلاوة قرآن وحج، وعمرة، وصدقة، ودعاء، وبكاء، وتبتل.

إن هذه الدنيا نغص وهم ونكد، إن لم ننشغل بما يرضي الله، ونطمع في الراحة في جنة الآخرة.

إخوتاه...
إلى المعذبين في الأرض.
إلى الذين شقوا وأشقوا أنفسهم وأشقتهم المعاصي.
إلى الذين أتعبوا أنفسهم بشهوات.
إلى الباحثين عن السعادة الحقة، سعادة القلوب.
إلى الباحثين عن الجنة، جنة الآخرة وجنة الدنيا.
إليهم جميعًا أهدي هذه الحلقات.

تعالوا معنا، هيا إلى جنة الدنيا.

إخوتي في الله.
أحبكم في الله، وأستودعكم الله.
وإلى اللقاء في جنة الدنيا، في الحلقة القادمة لنقطف أول زهرة (الحب).
ألقاكم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد حسين يعقوب

داعية إسلامي مصري، حاصل على إجازتين في الكتب الستة وله العديد من المؤلفات

  • 37
  • -1
  • 54,831
 
المقال التالي
(2) جنة التوحيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً