(5) الإرجاء في خدمة العلمانية
أبو محمد بن عبد الله
كل الأسف والأسى.. أن يتطهَّر (علماء) الشريعة، و(شيوخ) الدين عن السياسة، وأن يُطهِّروا منها مجالسهم، ومساجدهم وبرامجهم وقنواتهم!!
أحلقاتهم وقنواتهم أطهر من الحرمين ومساجد المسلمين الأولين والسلف الصالحين.. وإلا فكيف نكون سلفيين؟!
أقنواتهم ومجالسهم أطهر من المجالس التي يجلسها النبي صلى الله عليه وسلم للدين والسياسة التي من هي الدين، ويتبعه فيها السلف الصالحون، حيث كانت مساجدهم موطنًا ومنطلقًا للعبادة والسياسة، ومَعلنا للحرب ومعقدًا للسلم؟!
- التصنيفات: السياسة الشرعية - قضايا إسلامية معاصرة -
كنا في مقالنا السابق في هذه السلسلة أن علماء وقعوا في العَلمانية بصريح القول وتصديق الفعل، ونسبوا ذلك إلى فقه السنة والسيرة، وما أعلنا النقاش حتى أعلنوا القول؛ فاللهم اهدنا لأحسن القول وارزقنا اتِّباع أحسنه.
يُعلن هؤلاء العلماء أنهم يرجعون بقنواتهم أو دعواتهم إلى تعليم الناس القرآن والسنة... لا بأس، بل جميل جِدًّا، وما نريد سواء.
فإذا وصلوا في تعليمهم السنة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (الألباني، السلسلة الصحيحة، رقم:[2735]). وهذا الحديث يتعلق بالحُكام والسياسة، وقد ذكرهم كخلفاء، وليس كصحابة.. فهل إذا وصلوا إلى هذه الحديث يعلموه للناس، أم يقولون له هذا ليس من الدين، روحوا تعلَّموه في أيِّ مكان آخر بعيدًا عن باديتنا؟!
أيُعلمونهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين في السياسة، أم أنهم يَجرونه جرًا ويحصرونه حصرًا في سنن التعبدات والطهارة واللباس؟ أم أن هذا وذاك كلاهما من الدين ومن سنن الراشدين؟
بل؛ إذا جعلوا من تعليم الناس دين الله تعليمهم القرآن وتلاوة وتفسيرًا، ووصلوا في تفسيره إلى آيات الحكم والحُكام والتحاكم.. وهي كلها في السياسة.. من نحو قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وفي الأخريين: {الفاسقون}، {الظالمون}، ونحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].، ونحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وغيرها كثير..
أكانوا يشرحونها للناس، ويبينون لهم ما فيها من أحكام الدين، أم يتركونها ويقولون هي ليست من الدين، لأنها سياسة؟! فروحوا بعيدًا في أي مكان آخر تعلموا سياستها، وإنما نحن هنا نقتصر على تعليم الناس الآيات التي هي من دين الله، أما آيات القرآن التي ليست من دين الله فتعلموها بعيداً؟!
يعني أنه صار فيه قرآن وسنة من الدين، وقرآن وسنة ليس من الدين!! هذا مقتضى الحال والفِعال، ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي الضفة الأخرى، بل في الوجهة الأخرى لهذا التَّعلمْن، نجد الإرجاء الغالي -من الغلو وليس من الغلاء؛ فهو رخيص لمخالفته السنة- نجد! الإرجاء الذي وضع من الإسلام شطرَه، وجرَّده من فروعه وأغصانه وثماره.. فلا يقي من حَر ولا يحمي مِن قَرٍّ.
هذا الإرجاء هو الذي فتح الباب لبعض (الشيوخ) و(رجال الدين) بإخراج السياسة من الإيمان والدين، وهو الذي وجده بعض فيه بعض المشهورين مُدَّخَلًا يلجأون إليه يبررون به زلَّاتهم، ليدخلوه في إطار الخلاف، بل أدخلوه في منهج السلف، فشرعنوا به العَلمانية، وعَلمنوا به الدين والدولة.
في رسالتنا "الكشف والتبيين لشبهات المرجئين" (2001م) كتبتُ في مقدمتها: ".. قام شيوخ يرسخون الإرجاء ويؤصِّلونه له وقامت جماعات تتبنَّاه، وقام على رأسها مشهورون- أو قامت على أكتافه-.. حتى إذا أكل الإرجاءُ الجمَّ الغفيرَ من الشيب والشباب، وصار أهل السنة ومنهج الحق -عندهم- في عداد "الخوارج كلاب النار" و"التكفيريين" و"من لا عهد لهم ولا ذمة" وحتى استتم العناق واستحكم الوفاق بين طواغيت العلمانية مع طواغيت الإرجاء، وصار بعضهم لبعض ظهيرًا ونصيرًا، واجتمعوا على قصعة الدين، فَفَصَل الأولون بين الدين والحياة، وفصل الآخِرون بين الإيمان والعم، فظهر بذلك أنهما وِجهتان لعملة واحدة...". وها نحن نرى مصداق ذلك في الواقع.
كل الأسف والأسى.. أن يتطهَّر (علماء) الشريعة، و(شيوخ) الدين عن السياسة، وأن يُطهِّروا منها مجالسهم، ومساجدهم وبرامجهم وقنواتهم!!
أحلقاتهم وقنواتهم أطهر من الحرمين ومساجد المسلمين الأولين والسلف الصالحين.. وإلا فكيف نكون سلفيين؟!
أقنواتهم ومجالسهم أطهر من المجالس التي يجلسها النبي صلى الله عليه وسلم للدين والسياسة التي من هي الدين، ويتبعه فيها السلف الصالحون، حيث كانت مساجدهم موطنًا ومنطلقًا للعبادة والسياسة، ومَعلنا للحرب ومعقدًا للسلم؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى: ففيه الصلاة والقراءة والذكر؛ وتعليم العلم والخطب. وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء. وفيه يجتمع المسلمون عنده لِما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم. وكذلك عماله في مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى وكذلك عماله على البوادي؛ فإن لهم مجمعًا فيه يصلون وفيه يساسون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « »، كان "الخلفاء والأمراء" يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم؛ لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع" [مجموع الفتاوى: 35/ 39-40].
بعد هذا كُلِّه لا أجد لمن يعتذر لهؤلاء المشايخ حين يقول ويكرر: لعنة الله على السياسة!!
يتبع لمقالات:
أَعُلماء عَلمانيون؟! (1): الطريق إلى علمنة العلوم الشرعية
أَعُلماء عَلمانيون؟! (2): تنصير الشريعة وإشراك قيصر
أَعُلماء عَلمانيون؟! (3): سياسة العَلْمَنَة والسيرة النبوية
أَعُلَماء علمانيون؟ (4): فقه العَلمنة، والسياسة في السنة
ويتبع إن شاء الله تعالى ببقية السلسلة:
أعلماء عَلمانيون؟! (6): فقيهٌ بالشرع لا يفقه الواقع
تاريخ النشر: 13 صفر 1436 (5/12/2014)