شيخُ الإسلام؛ يَحكي مِحنتنَا
أبو فهر المسلم
فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسُنة اللهِ، وأيامه في عباده، ودأب الأمَم وعاداتهم، ففتنةٌ تركَت الحليمَ فيها حيرانَ، وأنزلت الرجلَ الصاحيَ منزلة السكران، وتركَت الرجلَ اللبيب لكثرة الوسواس؛ ليس بالنائم ولا اليقظان.
- التصنيفات: تزكية النفس - قبسات من الدروس -
شيخُ الإسلام؛ يَحكي مِحنتنَا اليومَ، وما نُعانيه، فتدبَّر، وتأمَّل!
"فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسُنة اللهِ، وأيامه في عباده، ودأب الأمَم وعاداتهم، لا سيَّما في مثل هذه الحادثة العظيمة، التي طَبَّقَ الخافِقَين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررُها، وأطلَع فيها النفاقُ ناصيةَ رأسِه، وكشَّر فيها الكفرُ عن أنيابِه وأضراسِه.
وكاد فيه عمودُ الكِتاب أن يُجتث ويُخترم، وحبل الإيمان أن ينقطعَ ويُصطَلم، وعُقر دار المؤمنين أن يَحِلَّ بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجَرة التتار.
وظنَّ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ؛ أن ما وعدَهم اللهُ ورسولُه إلا غُرورًا، وأن لن ينقلب حزبُ الله ورسولِه إلى أهليهم أبدًا، وزُين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظنَّ السوء، وكانوا قومًا بُورًا.
ونزلت فتنةٌ تركَت الحليمَ فيها حيرانَ، وأنزلت الرجلَ الصاحيَ منزلة السكران، وتركَت الرجلَ اللبيب لكثرة الوسواس؛ ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكَرت فيها قلوبُ المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغلٌ؛ عن أن يغيث اللهفان، وميَّز الله فيها أهلَ البصائر والإيقان، من الذين في قلوبهم مرضٌ، أو نفاقٌ، وضعفُ إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفَّر بها عن آخرين أعمالَهم الخاطئة.
وحدَث من أنواع البلوى ما جعلها قيامةً مُختصرة من القيامة الكبرى!
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقيٍّ وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفرَّ الرجلُ فيها من أخيه وأمّه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئٍ منهم شأنٌ يغنيه، ولم تنفع المنفعةُ الخالصة من الشكوى؛ إلا الإيمان والعمل الصالح والبرّ والتقوى.
وبُليت فيها السرائر، وظهرَت الخبايا التي كانت تُكنُّها الضمائر، وتبيَّن أن البَهرج من الأقوال والأعمال؛ يخون صاحبَه أحوجَ ما كان إليه في المآل.
وذمَّ سادتَه وكبراءَه؛ من أطاعَهم فأضلُّوه السَّبيلَ، كما حمِد ربَّه مَن صدَق في إيمانه؛ فاتخذ مع الرسول سبيلًا، وَبَانَ صدقُ ما جاءت به الآثارُ النبوية؛ من الإخبار بما يكون، وواطأتها قلوبُ الذين هم في هذه الأمة مُحدَّثون، كما تواطأت عليه المُبشِّرات؛ التي أُريها المؤمنون، وتبيَّن فيها الطائفةُ المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يَضرهم مَن خالفهم، ولا مَن خذلهم إلى يوم القيامة، حيث تحزَّبت الناسُ ثلاثة أحزاب:
1/ حزبٌ مجتهدٌ في نصر الدين.
2/ وآخر خاذلٌ له.
3/ وآخر خارجٌ عن شريعة الإسلام.
وانقسم الناس ما بين؛ مأجورٍ ومَعذور، وآخر قد غرَّه بالله الغَرور.
وكان هذا الامتحانُ تمييزًا من الله وتقسيمًا، {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:24].
فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين؛ أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليُمحِّص اللهُ الذين آمنوا، ويُنيبوا إلى ربِّهم، وليُظهر مِن عدوِّهم ما ظهر منه مِن البغي والمَكر والنَّكث، والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يَستوجبون به النصر، وبِعَدوِّهِم ما يستوجبُ به الانتقام".