يسر الدين.. ضوابط لا بد منها (2-2)
ناصر بن سليمان العمر
ولئن كان التيسير على العباد ورفع الحرج عن الأمة من أهم ما يميز هذه الشريعة الغراء فإن هناك من يتعامل مع هذه السمة بطريقة تضر ولا تنفع، وتفسد ولا تصلح..
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
إن البشرية لم تعرف دينًا كدين الإسلام في شموله وسعته وتحقيقه لمصالح الخلق ودفع المفاسد عنهم، وكيف لا يكون كذلك وهو الرسالة الخاتم وكتابه هو الكتاب الذي جعله الله مهيمنًا على كل الكتب؟
إن من أعظم ما يميز هذه الشريعة عما سبقها أنها جاءت برفع الحرج عن العباد ورفع الأغلال والآصار التي كانت على أهل الكتاب، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف من الآية:157].
ولئن كان التيسير على العباد ورفع الحرج عن الأمة من أهم ما يميز هذه الشريعة الغراء فإن هناك من يتعامل مع هذه السمة بطريقة تضر ولا تنفع، وتفسد ولا تصلح، وليست المشكلة في كون التيسير من سمات الدين، معاذ الله، لكن المشكلة فيمن يقوم بتمييع أحكام الدين وتضييع معالمه باسم التيسير.
إن الأمة اليوم تخوض معاركَ شرسةً على أكثر من جبهة، فهناك معركة خارجية مع أعداء الله المحاربين بالسلاح؛ كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، وهناك معارك داخلية، داخل الصف المسلم، أخطرها المعركة حول المنهج.
في معركة المنهج ابتليت الأمة بنوعين من الابتلاء؛ الأول: الإفراط، والثاني: التفريط.
لقد ابتلينا بأهل الإفراط والغلو الذين وصل بهم الأمر إلى تكفير الناس والعلماء، فهؤلاء الغلاة المفْرِطون يرفعون راية الإسلام، بل ربما انتسب بعضهم للسلف، والسلف منه براء، مما قد يلبس على بعض الناس، فإما أن يقعوا في حبالهم أو ينفروا من الدين ومن دعوة الحق، ولا حول لا قوة إلا بالله.
وابتلينا كذلك بأهل التفريط والتمييع، وبعضهم للأسف ممن يشار إليهم بالبنان من المشايخ وطلاب العلم، وقد ملأ هؤلاء الساحة بفتاواهم المتساهلة والمفرِّطة؛ بدعوى التيسير تارة، والوسطية تارة، ورفع الحرج أخرى، ولشهرة بعض هؤلاء وانتشارهم في وسائل الإعلام انقلبت الأمور عند بعض الناس حتى صاروا يسمون هؤلاء بأهل التيسير، ويسمون من خالفهم بأهل التشديد، وكأن الأولين هم من يراعون مقاصد الشريعة السمحة التي جاءت بالتيسير، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، وفي هذا من الشر ما لا يخفى.
بدعوى التيسير ورفع الحرج كاد بعض المفتين أن يخرجوا الناس من دين الله، فباسم التعايش والأخوة الإنسانية وغيرها من الشعارات البراقة، يتم تضييع معاني الولاء والبراء وتمييعهما، رغم أن الحب في الله والبغض فيه من أوثق عرى الإيمان، وقد أثر الزخم الكبير الذي صاحب هذه الدعوة في بعض الناس حتى صار هناك من يتحرج من قراءة الآيات التي تذم اليهود والنصارى وتبين ضلالهم وبطلان ما هم عليه، وصار هناك من يتحرج من تفسير سورة الفاتحة لما فيها من بيان أن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون!
وبدعوى التيسير ورفع الحرج يفتي بعضهم للاعب الكرة بجواز أن يفطر في رمضان إن كان يلعب ويتدرب كي يرفع اسم الوطن، ويفتي آخر بجواز الفطر إذا انقطعت الكهرباء رفعًا للمشقة بسبب حر الصيف، وهل كانت الأمة طوال أربعة عشر قرنًا تعرف الكهرباء؟ هي نعمة أنعم الله بها علينا، أنقابل هذه النعمة إن زالت مؤقتًا بهذا النكران والجحود لمسدي النعم؟
وآخر يفتي بجواز المصافحة والالتزام والتقبيل بين الموظفين والموظفات!
إلى غير ذلك من الفتاوى المخالفة لنصوص الشرع.
فهؤلاء المفتون الذين يخالفون ما قررته الشريعة يحرفون دين الله -شعروا أو لم يشعروا- وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فمن الخطأ أن نصفهم بأهل التيسير، بل هم على الحقيقة أهل التبديل.
إن الإنسان ليعجز حقيقة عن تصور خروج مثل هذه الفتاوى ممن يراقب الله عز وجل ويعلم عظم الأمانة الملقاة على عاتقه، وبخاصة عندما يرى بعض هؤلاء المفتين يتلونون في فتاواهم، فيفتون في السر بخلاف ما يفتون في العلن، ويفتون تبعًا للظرف وللمكان الذي يكونون فيه، على قول القائل: إن كنت في دارهم فدارهم، وإن كنت في أرضهم فأرضهم!
ولا شك أن مثل هؤلاء على خطر عظيم، فالإنسان إن كان لا يستطيع أن ينطق بالحق فليصمت، فقد يعذره الله وقد يعذره الناس، أما أن ينطق بالباطل فأي عذر لمثل هذا!
وبرغم ما سبق فإننا لا نحكم على كل هؤلاء المفرِّطين بقصد التحريف، فقد يكون منهم حسن النية والقصد الذي ما أوقعه في هذه الفتنة إلا فساد التصور والخطأ في النظر وتقدير الأمور، فحينها تكون فتاواه المتساهلة من باب زلات العلماء وشذوذاتهم الناتجة عن اجتهاد خاطئ، وهذا مما لا يكاد يخلو منه أحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال مجاهد وغيره: "ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم".
لكن هذا لا يعني السكوت عنهم ومداراتهم، ولهذا كثر تحذير العلماء من تتبع رخص العلماء وتفرداتهم، قال سليمان التيمي: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"، وقال إبراهيم بن أبي علية: "من تتبع شواذ العلم ضل"، وقال الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام، يريد بالنوادر المسائل الشاذة"، وقال إبراهيم بن أدهم: "إذا حملت شاذ العلماء حملت شرًا كثيرًا"، وقال عمر رضي الله عنه: "ثلاث يهدمن الدين؛ زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون". بل قد نقل ابن حزم وابن عبد البر وأبو الوليد الباجي وابن الصلاح وابن النجار الإجماع على تحريم تتبع الرخص.
إن لهؤلاء المفرِّطين علامات يُعرفون بها، فهم يفتون في المسائل بالخلاف، فمجرد وجود قول في المسألة -ولو كان شاذًا- يعني بالنسبة لهم جواز الفتيا به، فليست المسألة عندهم مسألة بحث عن مراد الله الذي بالدليل والحجة والبرهان. إن باب الخلاف واسع جدًا، ومسائل الخلاف أكثر بكثير من مسائل الإجماع، ولا تكاد تخلو مسألة من خلاف، وقد يوجد في المسألة الواحدة عشرات الأقوال، فهل يعقل أن تصح الفتوى بالخلاف؟
هذا مع أن الخلاف ليس دليلًا البتة، بل الدليل قال الله قال رسوله، والإجماع والقياس الصحيح، وقد بين الله عز وجل المسألة بيانًا كافيًا شافيًا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، فأمر عند الخلاف والتنازع بالرد إلى الدليل من الكتاب والسنة ولم يقل: فإن تنازعتم في شيء فخذوا بأي قول شئتم، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا!
ولئن كنا قد تحدثنا عن المفتين فلا بد أن نحذر الناس من تطلب الفتوى التي تروق لهم، فقد يستفتي الرجل عالمًا فيفتيه فلا توافق الفتوى هواه، فيبقى يستفتي عالمًا ثانيًا وثالثًا حتى يجد من يفتيه بما يريد، وهذا مما لا يجوز.
إن أمر الدين خطير، ومصير الإنسان في الآخرة متوقف على موقفه من الدين، فلهذا ينبغي عليه أن يكون حريصًا على دينه أكثر من حرصه على دنياه وأمواله وتجارته، فكما أنه يكون شديد الحرص حيث يضع ماله ويستثمره أو يودعه، فلا يضعه إلا في يد خبير قوي أمين، فعليه كذلك ألا يأخذ دينه إلا ممن يثق في علمه وتقواه وأمانته، فقد يكون عند الرجل علم ولكن لا دين عنده ولا أمانة، فيفتي بالتشهي أو بما يحقق مصالحه أو بما يرضي المستفتي، فإذا أفتاه من توفرت فيه الشروط للفتوى فلا ينبغي له أن يبحث عن مفتٍ غيره بل عليه أن يلتزم بما أفتاه به مفتيه، إلا إن وقع في قلبه شك أن هذه الفتوى تخالف الدليل، فعندها له أن يسأل غيره ليطمئن لا ليبحث عمن يفتيه بما يشاء، والله أعلم.