نعمة الأمن (وآمنهم من خوف)
وأخبر - عز وجل - عن أهل الكتاب أنهم لو استقاموا على أمره لَتحقق لهم رغد العيش؛ فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 66].
- التصنيفات: التصنيف العام -
امتن الله - تبارك وتعالى - على عباده بنعمتين، هما: الأمن، والاستقرار والرخاء الاقتصادي والمادي.
وأخبر - عز وجل - عن أهل الكتاب أنهم لو استقاموا على أمره لَتحقق لهم رغد العيش؛ فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 66].
وفي آية أخرى يأتي الوعد بذلك عاماً لأهل القرى وليس خاصاً ببني إسرائيل؛ فيقول - سبحانه -: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 69].
ويمتن - سبحانه - على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن مكّن لهم في الحرم الآمن، وهيأ لهم فيه أسباب العيش والرخاء؛ فقال: وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْـجَاهِلِينَ [القصص: 55].
ويأمرهم بأن يقارنوا حالهم بحال الآخرين؛ فيقول: أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت: 76].
ويجعل من لوازم ذلك الخضوع لله - سبحانه - بالعبادة وشكره على هذه النعمة؛ فيقول: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [قريش: 3 - 4].
ويبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك من أعظم الغنائم الدنيوية، فقد صحّ عنه قوله: «من أصبح منكم معافى في بدنه، آمناً في سِرْبه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا»[1].
إن هذا يؤكد أهمية هاتين النعمتين: الأمن، والاستقرار الاقتصادي، وأثرهما في بــناء المجتمعــات، كما يؤكد مسؤولية الأمة في السعـي إلى تحقيقهما واستدامتهما في بــلاد المسلمين، فحين يحــل الخــوف والقلق والاضطراب، أو ينشغل الناس بأزماتهم الاقتصادية وتوفير دخولهم المادية؛ فلن يكون المناخ ملائماً لتعليــم الناس دينهم وتربيتهم على شريعته وآدابه.
ولئن كان تقصير آحاد الأمة في القيام بواجبهم تجاه مجتمعاتهم مدعاةً للَّوْم، وربما استحقاق العقوبة؛ فكيف يقال في من يسعون لتقويض مكتسبات الأمة وإشاعة الخوف وتهديد اقتصادها؟
يروي الإمام مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالــله، اغـــزوا ولا تغُلُّـــوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً»[2].
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: «أن امرأة وُجِدت في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقتولة فأنكـــر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان»[3].
وبمثل هذا كان خليفته أبو بكر - رضي الله عنه - يوصي جيوش المسلمين، ويحكي الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه لا يعلم له مخالفاً.
إن ما رأيناه من أعمال مؤسفة تستهدف المنشآت الاقتصادية والحيوية لمجتمعات المسلمين؛ لَهو باب من أبواب الإفساد في الأرض، وجحود للنعمة التي امتن الله بها على عباده وجعلها ثمرة لاستقامتهم. وإدانةُ هذه الأعمال وتجريمُها ليس محلَّ خلاف بين أهل العلم الراسخين والدعاة العاملين، ولا يحتاج إلى كثير استدلال وبرهنة؛ فكيف نحتاج إلى الاستدلال على تحريم العدوان على الدماء والأموال المعصومة وتجريمها؟! لئن كان - صلى الله عليه وسلم - وصحابته يوصون من يقاتلون الكفار الصرحاء بأن يتجنبوا ذلك؛ فبأي مسوِّغ يبرر هؤلاء المعتدون إفسادَهم في مجتمعات المسلمين؟
ولئن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة؛ فكيف يُفسَّر حال من يؤذي المسلمين ويتعرض لدمائهم وأموالهم؟!
وتأمّلْ رحمةَ هذا الدين ورفقه حتى بالحيوان؛ فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «عُذِّبت امرأة في هرة؛ ربطتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستهــا، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»[4].
فإذا كانت المرأة عذِّبت في حيوان؛ فكيف بمن يستهين بدماء المسلمين، ويتطاول على أموالهم وحرماتهم، ولهذا نقل ابن حجر عن ابن العربي قوله: (ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق، والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي؟! فكيف بالمسلم؟! فكيف بالتقي الصالح؟!)[5].
إنَّ صدور هذه الأعمال الإجرامية عن شباب يُنسَبون إلى التدين والصلاح ينبغي ألا يعوق الإدانة الواضحة لتلك الأعمال، وبيان شناعتها وخطورتها على الأمة في العاجل والآجل.
وتشتد حرمتها وفظاعة جرمها إذا كانت في بلاد الحرمين مهوى أفئدة المسلمين - حرسها الله من كيد الفجار وعبث العابثين -.
إن هذا الواقع يفرض مسؤولية جسيمة على الدعاة وأهل العلم والمربين والمصلحين، في أن يسعوا لبناء النموذج المعتدل المتزن القادر على التعامل بحكمة، والقادر على مواجهة المؤثرات ونقد الأفكار وتقويمها، وأن يرسِّخوا لدى الناشئة مسؤوليتهم في الحفاظ على مكتسبات الأمة وأمنها واستقرارها.
كما أنه يفرض على أهل الرأي والمخلصين من أبناء الأمة معالجة هذه الظاهرة بحكمة وحنكة، حتى نستطيع درء الفتنة عن شبابنا، ونسعى لبناء طاقاتهم في نفع الأمة، وتوجيه مَلَكاتهم في تنمية المجتمع.
ختاماً:
لقد منّ الله على بلاد الحرمين ولاة أمر عاهدوا الله على أن يمضوا على نهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلهم منا الدعاء بالتوفيق والسداد، ونسأل الله لهم المثوبة والأجر.
(*) رئيس مجلس إدارة مجلة البيان.
[1] أخرجه الترمذي في كتاب الزهد (4/574) رقم (2346)، وابن ماجة في الزهد (2/1387) رقم (4141)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2318).
[2] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير (3/1357) رقم (1731).
[3] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير (3/1364) رقم (1744).
[4] أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (6/515) رقم (3482).
[5] فتح الباري بشرح صحيح البخاري (12/189).
عادل بن محمد السليم