مشاهدة الأطفال للمواد الإباحية
ملفات متنوعة
ظاهـــرة هامشية أم مشكلة مجتمع؟
- التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام -
إذا غاب تأثير الدين ظهر تأثير العوامل الاجتماعية
والنفسية:
هذه القاعدة اعترف بها وأقرَّها الباحثون العرب حتى أولئك الذين
ينتمون إلى أشد الاتجاهات الفكرية العَلْمانية تطرفاً، كما أكدتها
الدراسات الغربية التي تعرضت لدراسة الظواهر الاجتماعية والمشكلات
النفسية.
ولبيان ذلك سنتعرض لمثال واحد يتناول ظاهرة اجتماعية امتدَّ تأثيرها
إلى الأسرة المسلمة وأطفالها بفعل انتشار القنوات الفضائية وشبكة
الإنترنت، والظاهرة هي: "مشاهدة الأطفال للمواد الإباحية".
المادة الإباحية كما يرى الكُتَّاب الغربيون هي:
"مصطلح يعرَّف عـــادة بـ (البورنو) أو (البورنوجرافي)، وهو في أصله
كلمة مشتقة من كلمة يونانية تعني: الكتابة إلى البغايا".
وبالرغم من عدم وجود تعريف حديث مقبول لها، إلا أن القاسم المشترك في
كل التعريفات هو أن هذه المادة تحتوي على جنس فاضح ينتهك القيم
الأخلاقية للناس. لكن التعريف الأقرب إلى ثقافتنا هو أن المادة
الإباحية هي: "كل مادة تحتوي على جنس فاضح أو ضمني، بدءاً من الصورة
العادية الكاشفة للعورة، وانتهاءً بالفيلم الذي يصور العلاقة الجنسية
الكاملة بين أطراف متماثلة أو متغايرة، أطفالاً كانوا أو كباراً،
وتهدف أساساً إلى إثارة الشهوة الجنسية عند القارئ أو المستمع أو
المشاهد، أياً كانت الوسيلة التي تُعرَض بها".
في الولايات المتحدة رأس السيناتور (سام براونباك) عضو الكونجرس
الأمريكي في 10 نوفمبر 2005م اجتماع اللجنة الفرعية للدستور لمناقشة
قضية تأثير المواد الإباحية على الزواج والأسرة والأطفال؛ قال
براونباك: "إن معظم الأمريكيين يعلمون تماماً أن المواد الإباحية شيء
سيِّئ، ولكنهم لا يقدِّرون حجم الأذى الذي تتسبب فيه لمن يستخدمها
وللأسر بصفة عامة، وبينما يعلو الحديث عنها على أنها تدخل تحت مظلة
حرية التعبير، يخفت عن آثارها المدمرة على الأسرة والطفل".
وأشار السيناتور الأمريكي إلى أن ثلثي المحامين من أعضاء الأكاديمية
الأمريكية الخاصة بمحاكم الأسرة قد كشفوا في اجتماعاتهم أن انغماس
عملائهم المتزايد في الإنترنت الإباحي لعب دوراً كبيراً في قضايا
الطلاق التي يباشرونها.
وفي كندا أشار التقرير الصادر عن المؤسسة الكندية للتربية والأسرة في
عام 2004م إلى أن العديد من الدراسات أثبتت أن هناك ارتباطاً قوياً
بين تعرُّض الأطفال للمواد الإباحية والسلوك الجنسي المنحرف، وأن هناك
حاجة ماسة إلى قوانين وتشريعات لحماية الأطفال من التعرض للمواد
الإباحية؛ سواء عبر المصادر التقليدية؛ كالتلفاز والمجلات، أو عبر
التحدي الحديث الذي يواجهونه والمفروض عليهم من الإنترنت.
وفي ألمانيا أوضحت واحدة من الدراسات أن معدلات الجرائم الجنسية قد
انخفضت بعد صدور تشريع يقنِّن مسألة المادة الإباحية.
وفي اليابان طالبت بعض الأحزاب بإصدار تشريع يحمي الأطفال من التعرض
للمواد الإباحية خاصة بعد أن أصبحت هذه القضية محطَّ اهتمام اجتماعي
عريض. وكشفت الهيئة اليابانية لتعليم الجنس أن في اليابان وحدها 1200
موقع أطفال إباحي، وليست هناك من قوانين تواجه هذا الطوفان المدمِّر
لبراءة الطفل.
وتُعَدّّ (دونا رايس هوجز) واحدة من أبرز المهتمين بشؤون حماية الطفل
من خطر مشاهدة المواد الإباحية. كتبت (هوجز) تفصيلاً عن آثار هذه
المشاهدة في دراستها التي نشرها (موقع حماية الطفل)،تقول
(هوجز):
أولاً: مشاهدة الأطفال للمواد الإباحية تجعلهم فريسة للعنف
الجنسي:
أثبتت الدراسات أن الإنترنت أداة على درجة عالية من النفع لهؤلاء
المولعين بحب الأطفال وذئاب الجنس، فهذه الفئة من الناس هي التي تقوم
بتوزيع المواد الإباحية التي تعرِّض الأطفال للجنس، وتدخل في محادثات
جنسية صريحة مع الأطفال، وتبحث عن ضحاياها في غرف الشات، وكلما زاد
تعامل هؤلاء مع المواد الإباحية ارتفعت مـخاطــر ممارستهم لما
يشاهدونه؛ سواء أكانت هذه الممارسة في صـورة اعتداء أم اغتصاب جنسي أم
تحرش بالأطفال.
وبيَّنت دراسات أخرى أن التعرُّض المبكر - في سن الرابعة عشرة تقريباً
- للمواد الإباحية له علاقة بالدخول إلى عالم الممارسات الجنسية
المنحرفة وخاصة الاغتصاب. وأوضحت هذه الدراسات أن أكثر من ثلث
المتحرشين بالأطفال ومغتصبيهم كانوا قد تعرضوا للتحريض بارتكاب
اعتداءٍ ما بعد مشاهدتهم للمواد الإباحية، وأن 53% من الذين تم
تحريضهم على التحرش استخدموا عمداً المواد الإباحية لإثارتهم ونفّذوها
كما رأوها. وأوضح الخبراء أن التعود على مشاهدة المواد الإباحية يمكن
أن يؤدي إلى التقليل من حدة الإشباع الذي تحققه المواد الإباحية
المعتادة ويدفع بقوة إلى الرغبة في التعامل مع مواد أكثر عنفاً وأكثر
انحرافاً.
كما بيَّنت دراسات أخرى أجريت على المتحرشين جنسياًً بالأطفال أن
المواد الإباحية تعمل على تيسير التحرش بطرائق مختلفة، فعلى سبيل
المثال: وجد أن هؤلاء الذين يستخدمون الصور الفوتوغرافية الإباحية
يستخدمونها كذلك لشرح ما يريدونه من ضحاياهم، فهم يستخدمونها لإثارة
الطفل أو للتقليل من حدة ممانعته ورفضه لما يرغبونه، كما يرون فيها
وسيلة لإقناع الأطفال بأن فعلاً جنسياًً معيناً لا غبار عليه؛ كأن
يقولون له: "ذا الشخص يستمتع به، وأنت أيضاً ستستمتع به كذلك".
ثانياً: مشاهدة المواد الإباحية تؤدي إلى الإصابة بالأمراض الجنسية
والحمل غير الشرعي والإدمان الجنسي:
يتعرض الأطفال لمشاهدة مواد إباحية على درجات مختلفة من الخطر تبدأ
بالصور الكاشفة للعورة وتنتهي إلى أفعال جنسية فاضحة بشدة، وهنا
يستقبل الأطفال رسالة شديدة الخطــورة مــن تجــار الجنس مؤداها: ن
الجنس بلا مسؤولية مترتبة عليه شيء مقبول ومرغوب فيه. وبما أن المواد
الإباحية تشجع على التعبير الجنسي بدون مسؤولية فإنها تعرِّض صحة
الأطفال للخطر.
ولعـل أحد الآثار الضارة للنشاط الجنسي بين الأطفال الذين على وشك
البلوغ هو زيادة فرص إصابتهم بالأمراض التناسلية المعدية. وقد أوضحت
الإحصائيات أن هناك ثلاثة ملايين مراهق أمريكي من النشطين جنسياًً
يصابون كل عام بهذه الأمراض،وقد تضاعفت الإصابة بمرض (السفلس) منذ
منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي في الولايات المتحدة.
(وهو مرض جنسي غالباً ما ينتقل بالعدوى بين الشركاء المصابين، ويمكن
أن يتطور إلى مرض خطير إذا لم يعالج في الوقت المناسب، حيث يؤدي إلى
الإصابة بمشاكل صحية تؤثر على الجهاز المناعي للمُصاب وتؤدي في
النهاية إلى الإصابة بمرض نقص المناعة المكتسبة: الإيدز).
وتتزايد كذلك معدلات الحمل بين المراهقات المنغمسات في الأنشطة
الجنسية. وتوضح البحوث أن الذكور الذين يتعرضون للمواد المثيرة
جنسياًً قبل سن الرابعة عشرة هم أكثر نشاطاً من الناحية الجنسية
ويدخلون في سلوكيات جنسية مختلفة بوصفهم بالغين عن الذكور الذين لا
يتعرضون لهذه المواد المثيرة. وبيَّنت إحدى هذه الدراسات أن من بين
932 مدمناً على الجنس هناك 90% من الرجال و77% من النساء أكدوا أن
مشاهدة المواد الإباحية أحد الأسباب القوية لإدمانهم.
ثالثاً: مشاهدة المواد الإباحية يدفع الأطفال إلى سلوكيات جنسية
منحرفة ضد الأطفال الآخرين:
غالباً ما يقلِّد الأطفال ما يرونه أو يسمعونه أو يقرؤونه. وتبيِّن
الدراسات أن مشاهدة المواد الإباحية يمكن أن تدفع الأطفال إلى سلوكيات
جنسية منحرفة ضد الأطفال السذج والذين هم أصغر منهم سناً. يقول
الخبراء في ميدان الإساءة الجنسية ضد الأطفال: إن أي نشاط جنسي في
مرحلة قبل النضوج يؤدي بالأطفال غالباً إلى احتمالين هما: اكتساب
الخبرة، والتعرض لمثل هذا النشاط، وهذا يعني أن الطفل المنحرف جنسياً
ربما يكون قد تعرَّض للتحــرش الجنســي أو تعرَّض لمشاهدة الجنس عبر
المواد الإباحية.
وفي دراسة أخرى أجريت على ستمائة طالب وطالبة من المستجدين في المدارس
الثانوية الأمريكية تبيَّن أن 91% من الذكور و81% من الإناث شاهدوا
موادَّ إباحية شديدة الانحراف، وأن ما يزيد عن 66% من الذكور و40% من
الإناث ينتظرون محاولة ممارسة السلوك الجنسي الذي شاهدوه، وأن 31% من
الذكور و18% من الإناث اعترفوا بأنهم مارسوا فعلاً بعض ما شاهدوه في
المواد الإباحية خلال أيام قليلة من هذه المشاهدة.
رابعاً: مشاهدة المواد الإباحية تعمل على تشكيل اتجاهات وقيم
الأطفال:
إن معظم الآباء المتمسكين بالقيم العالية الخاصة بالحب والجنس والزواج
يحرصون على نقل هذه القيم إلى أبنائهم، لكن المؤسف أن رسائل المواد
الإباحية تربي أطفالهم على قضايا حياتية مختلفة؛ فالإعلانات التجارية
التي تروِّج لمنتج على حساب منتج آخر تكون الإباحية عاملاً هاماً فيها
مما يعمل على تشكيل قيم الأطفال واتجاهاتهم ومن ثَمَّ
سلوكياتهم.
إن الصور الفوتوغرافية والفيديو والمجلات والألعاب الخيالية والمواد
الإباحية على الإنترنت التي تصور الاغتصاب وتعمل على تجريد المرأة من
إنسانيتها في مناظر جنسية؛ تشكل أداة قوية تعمل على إحداث تغييرات
مدمرة في اتجاهات الأطفال.
وأكدت الدراسات المتعددة أن التعرض المكثف نسبياً للأشكال المختلفة من
المواد الإباحية له تأثير مأساوي على النظرة إلى المرأة والعلاقات
الجنسية بصفة عامة. وقد توصلت هذه الدراسات إلى نتيجة هامة هي: أن
الأطفال الذكور حينما يتعرضون لمدة 6 أسابيع على الأقل لمواد إباحية
فاضحة تنمو لديهم الصفات التالية:
1 - سلوكيات جنسية شديدة القسوة بالنسبة للمرأة، وإدراكات مشوهة عن
النشاط الجنسي.
2 - لا ينظرون إلى الاغتصاب على أنه اعتداء إجرامي، بل لا يعدّونه
جريمة بالكلية.
3 - الشهية نحو سلوك جنسي أكثر انحرافاً وأكثر شذوذاً وأكثر عنفاً كما
يرونه في المواد الإباحية، ولا يصبح الجنس العادي ذا قيمة
عندهم.
4 - يفقدون الثقة في الزواج بوصفه مؤسسة حيوية ودائمة. كما ينظرون إلى
العلاقات مع نساء غير زوجاتهم بوصفها أمراً عادياً وطبيعياً.
ويرى الخبراء أن دماغ الطفل في مرحلة هامة من مراحل نموه يكون أشبه
بالقرص اللاسلكي الصلب الذي يمكن برمجته وَفْقاً لتوجيهات جنسية
معينة. فإذا تمت هذه البرمجة على أساس معايير واتجاهات جنسية صحيحة؛
فإنها تكون الأساس لما يحتمل أن ينجذب إليه ويثار به الطفل مستقبلاً،
بمعنى: أنه تنمو لديه اتجاهات ومعايير جنسية صحيحة، وعلى النقيض من
ذلك فإنه إذا تعرَّض للمواد الإباحية فقد ينطبع الانحراف الجنسي على
هذا القرص الصلب ويصبح جزءاً دائماً في توجهه الجنسي.
ويرى الباحثون الغربيون أن ذكريات الطفولة والخبرة العاطفية بما فيها
خبرة الإثارة الجنسية تنطبع في الدماغ بواسطة هرمون الأدرينالين،
ويكون من الصعب إزالتها بعد ذلك؛ فإذا كان الشاب قد تعود على إشباع
رغبته الجنسية بممارسة العادة السرية، أو مشاهدة الصور والأفلام
الإباحية تصبح هذه الممارسة لاحقاً هي أداة إشباعه الجنسي حتى لو
تزوج، وهذا ربما يفسر بعض أسباب الإدمان الجنسي.
وبمعنى آخر: إن الهوية الجنسية تنمو بالتدريج خلال مراحل الطفولة
والمراهقة. ولا يكون للطفل عادة أي مقدرة جنسية طبيعية حتى السن ما
بين العاشرة والثانية عشرة، وبمجرد أن يكبر يتعرض لتأثيرات تلعب دوراً
هاماً في نموه، فإذا تلقى معلومات صحيحة عن الجنس من أبويه ومعلميه
تنطبع هذه المعلومات في ذاكرته وينمو نمواً صحيحاً، أما إذا دخل دائرة
التعرض للمواد الإباحية في سن مبكرة فسيتكوّن لديه إحساس مبكر ودراية
مبكرة عن الجنس، فتتعرض شخصيته وكذلك فكرته عن الذات والجسد والنشاط
الجنسي لعملية تشويه مما يزيد من احتمالات تعرضه للخطر.
انتهت دراسات الغرب إلى أن سَنَّ التشريعات وبيان مخاطر تعرُّض
الأطفال لمشاهدة المواد الإباحية هو أكثر الوسائل فاعلية للحدِّ من
آثار هذه الظاهرة؛ لأن «حرية التعبير» هي القاعدة المقررة في
الديموقراطية الغربية، وهو نفس ما يواجه به الغرب علاجه لمشكلة
«الإيدز»، فهو يقوم ببحوث علمية مضنية لمقاومة «الإيدز» دون المساس
بمبدأ حرية ممارسة اللواط وحتى الزواج بين رجل وآخر.
ويختلف ذلك تماماً عن موقف الإسلام من هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر؛
فالإســلام - كما يقــول العلمــاء -:" لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم
على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحاً. ويرى أن أمر سعادة وشقاء
البشرية - التي هي من صنع الله - وعــلاج أمراضها وشفاء عللها؛ لا يتم
إلا بمفاتيح من صنع الله نفسه. والله - سبحانه وتعالى - جعل في منهجه
وحده هذه المفاتيح، وجعل فيها شفاء لكل داء".
وخلاصة ما أفتى به علماء الإسلام في مسألة مشاهدة المواد الإباحية هو
قولهم: "تحريم النظر إلى العورات وإلى النساء المتبرجات أمر معلوم
بالضرورة من دين الإسلام، ومشاهدة هذه المواد الإباحية داخل في هذا
البــاب، وأنـــه لا شك في حرمته، حتى لو كان المقصود هو الإثارة
والتشويق قبل ممارسة الجماع بين الرجل وزوجته"(فتاوى موقع الإسلام اليوم). ويقول الشيخ محمد صالح المنجد: "مشاهدة
المواد الإباحية محرَّمة سواء كان الشخص متزوجاً أو غير متزوج، وعلى
فاعلها التوبة إلى الله".
المشكلة هنا هي أن هذه الفتاوى لا حرمة لها عند من لا حرمة عندهم للحق
والعقيدة، ولا وزن لها لمن فرغت قلوبهم منها، فنفوسهم فارغة هاوية،
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والـمُثُل
العالية فإنها - كما يقول المفكرون الإسلاميون - لا ترى إلا مصالحها
القريبة وقيمها الدنيا.
ولعل هذه المسألة هي التي دفعت الباحثين الإسلاميين في شؤون الأخلاق
إلى القول:" إن الدعوة إلى الأخلاق يجب ألا تحتل المرتبة الأولى في
إصلاح المجتمع أو إعادة بنائه، إنما يجب أن تكون الدعوة إلى العقيدة
هي الأصل؛ لأن الأخلاق نتاج لأوامر الله، وهي تأتي من الدعوة إلى
العقيدة وإلى تطبيق الإسلام بصفة عامة".
المشكلة إذن ليست ظاهرة أطفال أفسدتهم مشاهدة المواد الإباحية، وعلينا
حمايتهم من الآثار الناتجة عن هذه المشاهدة، بالدعوة إلى الأخلاق
القويمة وغير ذلك. إنها - كما يقول المفكرون الإسلاميون - مشكلة
انطلاق بهيمي يستحيل ضبطه وتطهير المجتمع منه إلا بعقيدة تمسك الزمام،
وسلطان يُستَمَد من هذه العقيدة، وسلطة تأخذ هؤلاء الذين يحبون أن
تشيع الفاحشة في المجتمع بالتأديب والعقوبة، وتردُّ الكبار والصغار
وترفعهم من درك البهيمية إلى مقام الإنسان الكريم على الله.
إن هذه الظاهرة وغيرها من مئات الظواهر الأخرى هي مشكلة عالَم قد فسد
ففسدت مجتمعاتنا تبعاً له؛ لأنها اتبعت سنن هذا العالم شبراً بشبر
وذراعاً بذراع، فدخلت جحر الضب الذي دخله هذا العالم. كما أن هذه
الظاهرة وغيرها لا تمثل إلا جزئية هزيلة أو منكراً جزئياً على هامش
الحقيقة الإسلامية، وتفريغ الجهد لحلِّها أو التحمُّس لاستنكارها لن
يجدي نفعاً؛ لأن المجتمع كلــه قــد فســد، فلا جدوى إذن من الإصلاحات
الجزئية، ولهذا ينبغي أن تبدأ المحاولة من الأساس، وتنبت من الجذور،
وأن يتركز الجهد أصلاً على إقامة مجتمع صالح يقوم على دين الله، بدلاً
من التركيز على إصلاحات جزئية.
ينبغي إذن - كما قال العلماء - إعادة إدخال الناس في الدين أولاً، ثم
تقرير سلطة هذا الدين في المجتمع؛ فالناس لا يستجيبون لعقيدة ضائعة
لأنها لا سلطة تحميها، وحين تستقر هذه السلطة يصبح الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر شيئاً يرتكز إلى أساس، أي: أنه لا جدوى من ضياع
الجهد في مقاومة المنكرات الجزئية والمنكر الأصلي باقٍ، وهو منكر
الجرأة على الله، وانتهاك محارمه، وتطبيق شريعة غير شريعته. ويمكن
القول بمعنى آخر: إن الحق لا يحق، ولا يوجد في واقع الناس، وإن الباطل
لا يبطل، ولا يذهب من دنيا الناس؛ إلا بأن يكون للعقيدة سلطان داخلي
يملأ قلوب الناس أولاً، وسلطان خارجي قادر على الإمساك بزمام الأمور
ودحر الباطل ثانياً.
د. أحمد
إبراهيم خضر