الوطن والمواطن والمستوطن
ومن مظاهر الغلو ما يطلقه كثير من الكتاب والصحفيين من تقديس تراب الوطن، وأرض الوطن، وسماء الوطن، ويقولون: الوطن المعطاء، وقد بلغ الغلو ببعضهم أن جعل رابطة الوطن ديناً بدلًا عن دين الإسلام
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد؛
فإنه يكثر ترديد هذه المصطلحات الثلاثة (الوطن والمواطن والمستوطن) على ألسن المتحدثين والكتاب، فأما الوطن والمستوطن فهما مشهوران في لغة العرب، وفي كلام العلماء، وقد طرأ على معنى الوطن في كلام المعاصرين ما اختلف به معناه عن أصله في اللغة، وفي عرف الفقهاء، وأما المواطن فلا يوجد في كتب اللغة، ولا في كلام العلماء بالمعنى الذي يريده أولئك الكتاب والمتحدثون، وإليك بيان المراد بهذه المصطلحات.
فالوطن في اللغة هو المكان الذي وطَّن الإنسان نفسه على المقام فيه، وعدم الرحيل منه، سواء أكان نشأ فيه، أم كان طارئاً عليه.
والوطن في العرف هو بلد العشيرة والأهل، وإن لم ينشأ الإنسان فيه، وهذان المعنيان مقصودان للناس قديماً وحديثاً، وقد طرأ معنى ثالث، وهو مصطلح سياسي، وهو أن الوطن كل ما يشمله حكم الدولة، ويدخل تحت ولايتها، وقد دخل هذا المصطلح على المسلمين في جملة ما دخل عليهم من مصطلحات الأمم والدول الحديثة، وواضح أن من مغزى هذا المصطلح ربط الناس على اختلاف بلدانهم بالدولة، وفصلهم عمَّا خرج عن حكمها، وترتب على ذلك في القانون السياسي اعتبار هذا المصطلح رابطةً يجري على أساسها التعامل، في الولاء، والإخاء، والنصرة، وإن اختلفت النِّحلة والملة.
وترسيخًا لرابطة الوطن في نفوس الشعب درجت الدول؛ الأصلُ والأتباع على تحديد يوم اسمه اليوم الوطني تحتفي به الدولة وتعظمه في مؤسساتها، ويطلب من الشعب ذلك، وهو في حقيقته عيدٌ من الأعياد، واتخاذ المسلمين مثل هذا العيد هو من ضروب التشبه بالكفار في عوائدهم؛ إذ ليس للمسلمين عيد سوى عيدي الفطر والأضحى.
ومن مظاهر الغلو ما يطلقه كثير من الكتاب والصحفيين من تقديس تراب الوطن، وأرض الوطن، وسماء الوطن، ويقولون: الوطن المعطاء، وقد بلغ الغلو ببعضهم أن جعل رابطة الوطن ديناً بدلًا عن دين الإسلام، ومن ذلك قول بعضهم:
بنو وطني سأذكرهم متى ما عشت في الدنيا وفي كفني
وفي قبري أقول له: إذا ما جاء يسألني
بنو وطني هموا ديني وديني هم بنو وطني
ومن شؤم هذا المصطلح الدخيل أن ما يُسمى به من صحيفة ونحوها تكون سمته الانحراف، ويصطبغ بالتغريب، والدعوة إلى العوائد الجاهلية، والمذاهب المنحرفة، والطعن في بعض أحكام الدين وأهله.
وأما المواطن فالمراد به المنتمي إلى الوطن بمفهومه السياسي، ولذا فإن من شروط كون الإنسان مواطناً أن يحمل ما يعرف بدفتر النفوس أو الحفيظة أو التابعية، ويعبر عنها بالجنسية، التي معناها أنه من جملة الرعية، ولذا قد ينتقل الشخص من وطن إلى بلد آخر بمنح الدولة الأخرى له جنسيتها، فيصير البلد الجديـد وطنه، وفي المقابل إذا اختلف المواطن مع الدولة سحبت منه الجنسية، وطلب منه الخروج، ولو كان البلد الذي هو فيه وطن آبائه وأجداده، ومما يحقق هذا المفهوم أن البلد لو طرأ عليها تقسيم لكان كل قسم وطناً مستقلاً عن الآخر، ولذا أقول: إن من المناسب أن يسمى اليوم الوطني بيوم الدولة ليطابق الحقيقة.
وأما المستوطن في لسان الناس اليوم فلم يختلف عن أصل معناه اللغوي.
وبعد؛ فالواجب على المسلم بناء حبه وولائه وإخائه على رابطة الإسلام، بحيث يتحقق معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌۭ} [الحجرات من الآية:10]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم [2586])، وقوله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح ابن حبان [4967])، فيحب في الله، ويبغض في الله، ويوالي في الله، ويعادي في الله.
ومما يتصل بهذا ما اشتهر على ألسن كثير من الناس من قولهم: حب الوطن من الإيمان، ويذكرونه حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو لا يصح رواية؛ فلا تجوز نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يصح من جهة معناه؛ فإن محبة الإنسان لوطنه محبة طبيعية، كمحبته لولده ووالديه وزوجه، والمحبة الطبيعية ليست من الإيمان، وإنما المحبة التي هي من الإيمان محبة ما يحبه الله، موافقة لله فيما يحبه، وهذا يشمل ما يحبه الله من الأشخاص والبلاد والزمان والأعمال، ومحبوباته سبحانه تتفاضل، فيجب أن تحب بحسب فضلها، ومحبة الله لها، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.
الرياض 6/3/1433هـ.
- التصنيف:
- المصدر: