قضاء الوطر بمعرفة أحكام الشتاء والمطر (2)
لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى.. فهيّا أخي! امض وتصدّق ولو بشيء يسير، فربّما كان في نظرك حقيرا وعند ذلك الفقير المحتاج كبيرا وعظيما.
كَـْيـفَ نَـشْـكُـرُ نِـعْـمَـةَ الـمَطَرِ؟
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
أمّا بعد:
فأوّل مظاهر شكر هذه النّعمة:
1) نسبة النّعمة إلى الله - تعالى -.
فقد روى البخاري ومسلم واللّفظ له عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)).
هذا فيما يخصّ المطر فحسب، فكيف بمن يتتبّع أخبار الكواكب في جميع شؤون حياته، وتراها على صفحات الجرائد والمجلاّت في بلاد الإسلام، وكان ينبغي للهيئات المختصّة أن تردعها.
قال الإمام الشّافعي في (الأمّ): " من قال (مُطرنا بنوء كذا وكذا) على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى مطر نوء كذا، فذلك كفر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنّ النّوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً، ومن قال (مطرنا بنوء كذا) بمعنى مُطرنا في وقت كذا، فلا يكون كفراً وغيره من الكلام أحبُّ إليّ منه " ا. هـ.
2) التّقوى والاستقامة والاستغفار:
ومن سبل شكر المنعم - تعالى -تقوى الله والاستقامة على شرعه، وأن يستغفر المؤمن لذنبه، قال الله - تعالى -: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [الأعراف: 96]، وقال: ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)) [الجـن: 16]، وقال - تعالى -عن نوح - عليه السلام -: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11))) [نوح].
3) مواساة الفقراء والمحتاجين:
أيها العالَم ماذا هذا السّكـوت *** أولا تبصـر هذا الجـبروت؟!
ألا تبصر على الإخوان ظلـمًا *** أولا تبصـر أطفالاً تـموت؟!
إخواننا عضّتهم الحروب..ثمّ عضّتهم فتن وخطوب..وثالثة الأثافـيّ عليهم الشّتاء وهم في عراء، لا تسترهم إلاّ السّماء، حتّى تبتلعهم أرض الصّحراء..
وإن كانوا يتألّمون من الجوع طوال العام، فلا ريب أنّكم أحسستم أنّ البرد يضاعف الجوع..
أيها الإخوة في الله، يُفرِحُنا أن نسمع بفلان قد اعتمر.. وآخر قد حجّ.. ولكن يؤسفنا أنّنا إذا سألناهم، هل أخذتم معكم بعض المال لجمعيّات الإغاثة هناك الّتي تقوم على المسلمين الأفغان، والشّيشان، وأهل العراق، وغيرهم.. ؟ فيكون الجواب هو تلك الدّهشة التي تبدو على محيّاهم، وكأنّهم يقولون لنا: لم يخطُر ببالنا قط حال هؤلاء..
فإن خفِي عليك حال أولئك فكيف يخفى عليك حال جيرانك، وأهل حيّك وبلدتك؟!
فاستمع إلى المحتاج وهو يخاطبك:
أتـدري كيـف قابلنـي الشتاء *** وكيف تكـون فيـه القرفصاء
وكيـف البـرد يفعـل بالثنايـا *** إذا اصطكت وجاوبها الفضـاء
وكيف نبيت فيـه علـى فـراش *** يجور عليه في الليل الغـطــاء
فـإن حـلّ الشّـتاء فأدفئونـي *** فـإن الشـيخ آفتـه الشـتـاء
أتـدري كيف جارك يا ابن أمّي *** يهــدّده مـن الفقـر العنـاء
وكيـف يـداه ترتـجفان بؤساً *** وتصدمـه المذلّـة والشّـقـاء
يصبّ الزّمهريـر عليـه ثلـجاً *** فتجمد فـي الشّـرايين الدمـاء
خِراف الأرض يكسـوهنّ عِهنٌ *** وتـرفـل تحتـه نـعـمٌ وشـاء
وللنّمل المساكـن حيـن يأتـي *** عليـه البـرد أو جـنّ الـمسـاء
وهـذا الآدمـيّ بـغـيـر دار *** فهل يرضيك أن يزعجـه الشّـتـاء
يجـوب الأرض من حـيّ لحيّ *** ولا أرض تـقـيـه ولا سـمـاء
معـاذ الله أن تـرضـى بهـذا *** وطـفـل الجيـل يصـرعه الشّتاء
أتلقـاني وبـي عـوز وضـيق *** ولا تحـنو؟ فمـا هـذا الجفـاء
أخـي بالله لا تجـرح شعوري *** ألا يكفيـك مـا جـرح الشـتاء
اعلموا أنّ هذا الموسم لكم فيه ما تزرعون، ومنه ما تؤمّلون، وتذكّروا فضل مواساة المحتاجين، لقد دخل رجل الجنّةَ في كلب كاد يهلك من العطش فسقاه ماءً، فكيف بمن سعى في حاجة المسلمين:
روى أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ قَالَ: ((مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ)) حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ.
صورة رائعة مشرقة عندما يكون في المجتمع الإسلامي فاقة وحاجة، يُلزِم الإسلام أصحابَ فضول الأموال أن يُخرِجوا من فضول أموالهم ولو من غير مال الزَكاة ما يسدّ حاجة إخوانهم، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)).
فيا إخوة الإيمان! لبّوا نداء الرّحمن: ((مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [البقرة: 245]..
فجدير بكل من امتلأ قلبه بالإيمان، وأحاط بمشاعره، واستغرق وجدانه أن يسهل عليه الخروج من كل ما يملك ابتغاء مرضاة الله وحياءً منه، فكيف وقد وعد الله جل جلاله برده مضاعفًا أضعافًا كثيرة ووعده جلّ جلاله الحق.
أخي المسلم.. أختي المسلمة.. إنّ هذا الفصل نعيشه ويعيشه معنا أناسٌ يستقبلون قبلتنا، ويصلّون صلاتنا، ويحجّون حجّنا، فلهم حقّ علينا أن نواسيهم.. لا بدّ أن نتذكّر أولئك الّذين يفترشون الأرضَ ويلتحفون السّماء.. لا بدّ أن لا ننسى أولئك الّذين اخترق الزّمهرير عظامهم..
أخي المسلم.. أختي المسلمة.. قل لي بربّك: كم يملك أحدُنا من ثوب؟ وكم يفصّل أحدنا من ثوب؟ وكم.. وكم.. خير كثير كثير.. ونعم لا تحصى.. ولكن أين العمل؟.. إلى الله المشتكى..
لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى.. فهيّا أخي! امض وتصدّق ولو بشيء يسير، فربّما كان في نظرك حقيرا وعند ذلك الفقير المحتاج كبيرا وعظيما.
عبد الحليم توميات
- التصنيف:
- المصدر: