الرأي، والرأي نفسه
في لحظات صار ذلك الذي وصفوه بالحليم الرشيد يتكلم في نظرهم كلامًا غير مفهوم! وصار ضعيفًا فيهم! ولم يعد عزيزًا بينهم! بل وهددوه ضمنيًا بالرجم!
{يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62].
هكذا قال قوم ثمود، لنبيهم صالح عليه السلام، حين جاءهم بما لم يعجبهم، كنت مرجو النفع، يؤمل فيك العقل الراجح، والفكر السديد، كنت محمودًا، موقرًا، يُقتدى بأخلاقك، وتُقدر أقوالك.
كنت في الماضي.
أما اليوم قد فقدت مكانتك بيننا، بعد أن جرؤت أن تختلف معنا، وتقول بخلاف ما توارثناه عن آبائنا، وسادتنا، وكبرائنا، فلتفقد مكانتك، وليدنو قدرك إذًا، أو فلتكف عما تقول.
أسلوب يحمل بداخله ترهيبًا، وترغيبًا.
التذكير بالمكانة السابقة، والترهيب -من خلال التهديد- بنزعها، والترغيب الضمني باستعادة تلك المكانة، وربما زيادتها، إذا استجاب، ولم يخالف التيار.
عبارات كثيرًا ما يصدرها أصحاب هذا الأسلوب، من نوعية (سقطت من نظرنا)، (صُدمنا فيك)، (فقدت مكانك)، إلى آخر تلك العبارات، التي يكون الغرض الأساسي منها تخويف من يقول الحق، الذي يدين به، وإسكاته، أو ضمه لركب هؤلاء، ليكون في النهاية مجرد صدىً لأصواتهم.
تمامًا كما فعل أهل مدين، مع نبيهم شعيب عليه السلام، حين قالوا: {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيد} [هود:87].
استهزاء وسخرية يحملان تذكيرًا بسابق العهد، وسالف المكانة.
أنت يا شعيب!
أنت يا من كنت فينا حليمًا، رشيدًا!
أنت يا من عُرفت بحسن الأخلاق! ورجاحة العقل، ومكارم الصفات، يصدر عنك هذا القول!
لم يكن الأمر -هنا- قاصرًا على السخرية وحسب؛ بل كما قال القرطبي والبغوي والرازي، ورجحه الشيخ الشعراوي رحمهم الله جميعًا؛ كان يحمل ذلك التذكير بهذا المقام الذي كان له بينهم، والمزايدة عليه، المقام الذي يوشك أن يفقده؛ لأنه خالفهم، وتَجرأ أن يتكلم بغير قولهم، ويختار ما يباين خياراتهم.
وبالفعل لم يمض كثير من الوقت، حتى تغيرت اللهجة، وزال الاحترام، ورحلت المكانة.
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91].
في لحظات صار ذلك الذي وصفوه بالحليم الرشيد يتكلم في نظرهم كلامًا غير مفهوم! وصار ضعيفًا فيهم! ولم يعد عزيزًا بينهم! بل وهددوه ضمنيًا بالرجم!
لماذا كل هذا؟!
لماذا تحول الأمر هكذا مع الأنبياء؟!
ختامًا بالنبي محمد صلي الله عليه وسلم، الذي كان يُلقب بين قومه بالصادق الأمين، فلما قال ما لم يوافق الهوى، ولم يشابه ما يقولونه، إذا به يُرمى بالكذب، والسحر، والكهانة، ويكون أول من يتوعده عمه! تَبَّتْ يداه.
لأنهم اجترأوا على أن يجهروا بما دانوا لربهم أنه الحق.
لأنهم حطموا التصورات السائدة، وقرروا أن يصدعوا بما اعتقدوه، وإن خالف عموم الناس، أو ضايقهم.
طبعًا الأمر في الأمثلة التي ضربتها في باب العقائد، وهو في شأن الرأي أدهى وأمرّ.
إنه الرأي، والرأي نفسه.
غالبًا أو دائمًا هو الرأي، والرأي نفسه.
هذا هو ملخص ما يريده كثير من الناس اليوم، ومآل جل حواراتهم -إن تحاوروا أصلًا-، وهذه هي خلاصة توجهاتهم.
طالما أنك تُشْبهني، ورأيك مثل رأيي، وقناعاتك تطابق قناعاتي، فأهلًا بك، وسهلًا، وعلى الرحب والسعة، وحبيبي، وصاحبي، وتاج رأسي أيضًا.
أما إذا فكرت -يومًا- مجرد تفكير أن تخالفني، أو أن تخرج عن النسق الذي قررته لك في ذهني؛ فتبًا لك سائر اليوم، والأيام القادمة، ولتسقط عنك أي فضيلة، وليزل عنك أي حق، وليقال لك: "أنت شَرنا، وابن شَرنا"، كما قالت (يهود) لعبد الله بن سلام، حين خالفهم، وقد كانوا يصفونه قبلها (بخيرهم، وابن خيرهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم)، هو قولنا وحسب.
لا يوجد -تقريبًا- اليوم ما يُسمى بالرأي والرأي الآخر، أو مواجهة الفكر بالفكر، والاختلاف بالحوار، أو رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
بل لا يوجد شيء -أصلًا- اسمه رأي غيري خطأ، يحتمل الصواب.
خطأ؟!
هكذا فقط؟!
بل رأي غيري خطيئة، وإجرام، وخيانة، وربما كفر، وزندقة، ومروق، وباقي القائمة المعروفة، والجاهزة، ليُرمى بها صاحب النصيب، الذي قرر يومًا أن يقول قولًا يُخالف قولهم، أو يتجرأ، وتسول له نفسه، أن يكون له رأي آخر.
- التصنيف: